الوقت- فرنسا أحد المراكز الرئيسية لليبرالية في العالم، شهدت خلال الأیام الأخیرة هجمات إرهابیة وحادثتي اختطاف في عاصمتها باریس. وأثارت هذه الهجمات علاوة علی القضایا الأمنیة، نقاشات حول حدود حریة التعبیر وآثارها السلبیة والإیجابیة علی فرنسا، والمجموعة التي تقف خلف هذه الأحداث ودوافعها. والإجابة البسیطة والقصیرة علی ذلك هي إرهابيو الأصولية الإسلامية. ولکن معرفة ماهیة هذه الهجمات وأهدافها وأسباب وقوعها، تحتّم علینا البحث عن الجهة المنفذة للهجمات بشکل دقیق.
الأحداث الأخيرة في فرنسا أثارت مخاوف جديدة في العالم. إذا کان داعش یمارس عنفاً أکثر شدة من مثیلاته السابقة، فإن إعلانه الحرب ضد الغرب یمکن أن یخلق رعباً أکثر من القاعدة نفسها. وعندما کان تنظیم القاعدة یبرر أعماله الإرهابیة بضرورة قتل المذنبين والكفار، فیبدو أن تنظیم داعش لا یبدي حاجة لتبریر ما یمارسه من قتل وذبح بحق الأبریاء.
فهل اتجه داعش نحو الغرب؟ وإذا کان ترکیز هذا التنظیم الإرهابي علی إقامة الدولة الإسلامیة في الشرق الأوسط، فما هي الظروف التي تجعله یتجه نحو محاربة الغرب؟ ثم ألا یجب أن تشکل تحذیرات هذا التنظیم للغرب بعدم التدخل في شؤون منطقة الشرق الأوسط، درساً للدول الغربیة حتی تکف عن مداخلاتها في المنطقة خاصة في العراق وسوریا، وتترك مسؤولیة حل مشاکلها لدول الشرق الأوسط؟
تبني تنظيم القاعدة في اليمن المسؤولية عن هجمات باريس، ساهم في الحد من المخاوف بشأن ظهور داعش في الغرب، ولکن یشیر هذا الأمر إلی أن داعش مازال یعتبر عدوه في داخل الشرق الأوسط والحدود التي یحددها التنظیم، الأمر الذي یحذّر دول المنطقة بأن تتصرف إزاء هذه الظاهرة أكثر احتیاطاً من ظهور تنظيم القاعدة. ذلك أنه یبدو أن تنظیم القاعدة مازال یمیل إلی قتال الغرب وخاصة أمیرکا أكثر من الجماعات الأصولية الإسلامية الأخرى، ولکن داعش مازال یرکز علی محاربة العدو الداخلي أي الشیعة أو الذین یعتنقون فکراً یختلف عن الفکر السلفي الجهادي الذي یتبناه هذا التنظیم.
إن التنبؤ یعلب دوراً هاماً في منع العملیات الإرهابیة، وللحیلولة دون حدوث الأعمال الإرهابية في المستقبل، تقوم القوات الأمنیة في کل دولة بإجراءات متعددة منها مراقبة المشتبه بهم أو رصد التحرکات في الأماكن العامة المهمة مثل المطارات وقطارات الأنفاق وما إلی ذلك. لکن الباحث الاجتماعي والسياسي یرید معرفة الأهداف والخلفيات الفكرية للإرهابيين. ویمکن للقراءة المتأنية للكتب والمحاضرات والمکالمات والصور العائدة للإرهابيين، أن تجعل إجراءاتهم اللاحقة أكثر قابلية للتنبؤ.
خرج تنظیم القاعدة من الحرب بین المجاهدين المسلمين والحكم الشيوعي السوفياتي، وکان یستهدف الغرب بسبب غزوه لمنطقة الشرق الأوسط المسلمة، وتشیر ممارساته إلی أن أنشطته تشمل نطاقاً دولياً واسعاً والغرب بشکل عام.
أما الأهداف بالنسبة إلی داعش فهي إقلیمیة بشکل أغلب. ویتصرف هذا التنظیم بشکل أكثر تماسكا وتکاملاً من تنظيم القاعدة . وقد أعلن داعش أن هدفه هو تأسیس الخلافة الإسلامیة، ولیس محاربة الغرب وأمیرکا کما تفعل القاعدة، واستهدف في کل معارکه الأهداف الإقلیمیة. أما ممارسات مثل اختطاف الصحفيين وعمال الإغاثة الغربيین، فیهدف التنظیم من وراء ذلك إلی خلق الخوف في قلب أمريكا وحلفائها بسبب دخولهم إلی الصراعات الداخلية للشرط الأوسط. وکأن داعش یقول لأمیرکا ابتعدي عن المشهد ولا تجلبي لنفسك المتاعب.
وعندما ننظر إلی توقیت بث مقاطع الفيديو التي تظهر الرهائن لدی هذا التنظیم وردة فعل التحالف الدولي ضد داعش، نکتشف أن مقاطع الفيديو هذه لا تستهدف الغرب بل حضور هذا الغرب في منطقة الشرق الأوسط. وهكذا في كل مرة اشتدت الضربات الجوية لقوات التحالف ضد داعش، نشر التنظیم مقاطع فيديو جدیدة والأعمال الوحشية التي یرتکبها بحق مواطني الدول الغربیة. فإذا ابتعد الغرب عن هذا التنظیم وترکه وشأنه، فإن داعش لن یشعر بأي عداء للغرب وسیتابع محاربة الأعداء الداخلیین في الشرق الأوسط.
إذن فهم أزمة باريس يمكن أن یكون درساً كبيراً للحكومات في الشرق الأوسط. هذه المرة هدف الإرهابيين هو الشرق الأوسط، وعداء داعش والمشاكل الأمنية التي سیجلبها إلى المنطقة، هي أصعب بكثير من المشاكل التي خلقها تنظيم القاعدة للمنطقة. لقد أظهرت أحداث باریس أن داعش لم یدر ظهره للشرق الأوسط بعد، وعلی دول المنطقة أن تعزز المسؤولية الإقليمية أكثر من الماضي للحفاظ علی أمنها، ویجب أن تتعلم أن علیها التخلي عن ممارسة "ازدواجية المعاییر" أمام العدو المشترك.
