الوقت- يقول المثل الشعبي الدارج "اليد التي لا تستطيع كسرها، قبّلها وادعُ عليها بالكسر"، وهذا هو الحال الذي أضحت عليه السياسة الأمريكية تجاه حركة "أنصار الله" في اليمن، فبعد محاولات عدة لضرب الحراك الشعبي في هذا البلد والالتفاف على "ثورة 11 سبتمبر"، والسعي لتقسيم اليمن إلى أقاليم على أسس مذهبية ومناطقية، لم تفلح امريكا وحلفائها من دول الخليج الفارسي في تطويق هذا الحراك ومن ورائه حركة "أنصار الله" صاحبة الدور البارز في الدفاع عن مطالب الثورة اليمنية. الأمر الذي دفع الولايات المتحدة لتغيير سياستها تجاه حركة "أنصار الله" والاعلان عن اجراء اتصالات معها، في اعتراف واضح للوزن الذي أصبحت تمثله هذه الحركة على الصعيدين الداخلي والاقليمي.
حيث ألمحت امريكا أمس على لسان المتحدث باسم البنتاغون إلى وجود اتصالات مع حركة "انصار الله"، التي تحظى بنفوذ كبير في مناطق واسعة من اليمن، حيث قال المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية "جون كيربي" في مؤتمر صحفي من واشنطن، إنه "من الدقة أن نقول إن الحوثيين كمشاركين في هذه الأحداث، سوف يكون لديهم، بكل تأكيد، مبرر للحديث مع شركاء دوليين والمجتمع الدولي عن نواياهم وعما سيسفر عنه الوضع".
وأضاف كيربي أنه "بسبب عدم الوضوح السياسي، فمن المنصف القول إن مسؤولين حكوميين أمريكيين على اتصال مع أطراف مختلفة في اليمن، بخصوص ما يمكن وصفه بالوضع السياسي غير المستقر والمعقد".
من جانب آخر تحدثت مصادر مطلعة لموقع الوقت التحليلي أن الجانب الأمريكي وخلال زيارة أوباما الأخيرة للرياض قد أبلغ الملك الجديد سلمان بن عبدالعزيز بضرورة التكيف مع الواقع الجديد والتعامل مع حركة أنصار الله بوصفهم لاعب مهم في المنطقة. فما هو السر وراء التحول في الموقف الأمريكي؟
لفهم طريقة التعاطي الأمريكية مع اليمن وحركة أنصار الله، لابد من الوقوف على مصالح امريكا في اليمن، والسياسة التي كانت تتبعها حتى أمد قريب في هذا البلد:
ماذا تريد امريكا في اليمن
تخشى واشنطن التي تهيمن على مصادر النفط في دول الخليج الفارسي، من يمن قوي يهدد مصالحها في المنطقة، خاصة وأن اليمن بما يمتلكه من ارث حضاري وخزان بشري، مؤهل بشكل كبير ليكون سيد الجزيرة العربية وصاحب الكلمة العليا في البحر الأحمر.
وطوال السنوات الماضية من عهد الرئيس المعزول علي عبدالله صالح، لم تتوقف واشنطن عن التدخل في شؤون اليمن بدعوى محاربة تنظيم القاعدة، ومن أجل ايجاد الذريعة لذلك، كان لافتاً حجم التهويل الاعلامي الذي ساقته امريكا حول مدى خطورة فرع تنظيم القاعدة في اليمن، حيث وصفته وكالة الاستخبارات الأمريكية (سي آي ايه) بالأخطر في العالم، كما لم يغب اسم تنظيم القاعدة في اليمن عن الهجوم الذي شهدته صحيفة شارلي ايبدو الفرنسية مؤخراً، الأمر الذي يصفه مراقبون بمساعي لإيجاد الذريعة لمزيد من التدخل في الشأن اليمني تحت عناوين محاربة الارهاب.
من ناحية أخرى تخشى امريكا من تنامي قدرة اليمن إلى الحد الذي يمكنه من السيطرة التامة على مضيق باب المندب الاستراتيجي، مما قد يهدد حركة الملاحة الأمريكية في البحر الأحمر، كما أن نجاح الثورة في اليمن قد يؤدي إلى انتقال عدوى الثورات إلى دول الخليج الفارسي ذات النظام الملكي، وارتفاع قيمة النفط وضرب المصالح الأمريكية والغربية في المنطقة.
لا تريد امريكا للثورة اليمنية أن تحقق مطالبها، وفي الوقت نفسه لا تريد لتنظيم القاعدة أن يتمدد، وهي تتبع في التعاطي مع القاعدة في اليمن نفس الاسلوب الذي تتبعه مع داعش في العراق، من خلال توجيه ضربات محدودة دون القضاء عليه من أجل استخدامه ضد أنصار الله والحراك اليمني، كما لا تريد لليمن أن ينزلق نحو الفوضى العارمة، الأمر الذي سينعكس سلباً على أمن السعودية وحكمها الهش في ظل العديد من الأزمات الداخلية والخارجية التي تعصف بها. ما تريده امريكا هو يمن ضعيف، مهادن، تحت الوصاية، وضمن السيطرة. وسياستها في اليمن خلال السنوات الماضية تشهد على ذلك.
مساعي امريكا وحلفائها لتطويق الحراك اليمني
بعد انطلاق ثورة الشباب اليمنية في العام 2011، جاءت المبادرة الخليجية كحل وسط لنقل السلطة في البلاد، حيث تنحى الرئيس السابق علي عبدالله صالح، ليجيء بعده الرئيس الحالي عبد ربه منصور هادي. إلا أن هادي كان مرتَهناً إلى حد كبير لواشنطن ومعروف عنه أنه لا يقوم بخطوة بدون مشورة السفير الأمريكي في اليمن.
عملت امريكا من خلال المبادرة الخليجية على تمرير مسودة الدستور التي صيغت في الامارات باشراف فرنسي و التي تقضي بتقسيم اليمن إلى أقاليم وفق تقسيمات مذهبية ومناطقية. تنبهت اللجان الشعبية لخطورة الوضع، فقامت بإيقاف مدير مكتب رئيس الجمهورية، الأمين العام لمؤتمر "الحوار الوطني" أحمد بن مبارك، المسؤول المباشر عن تمرير مسودة التقسيم، كما أحكمت اللجان الشعبية السيطرة على القصر الرئاسي، واشترطت حركة "أنصار الله" عدة نقاط وفقاً لمرجعية "السلم والشراكة" لفك الحصار عن القصر الجمهوري، مما أدى في نهاية المطاف إلى إيقاف عملية إمرار الدستور والأقاليم بطريقة رسمية، والوصول مع الرئيس هادي إلى اتفاق لحل الأزمة.
عارضت دول الخليج الاتفاق ووصفته بالانقلاب، في حين أبدت واشنطن استياءها، وقال وزير الخارجية الأمريكي أن الرئيس هادي "أُجبر" على الموافقة على الاتفاق.
وصل موفد الامم المتحدة "جمال بن عمر" الى اليمن، لتأتي بعدها استقالة الحكومة اليمنية والرئيس عبد ربه، الأمر الذي جاء -وفقاً لمراقبين- بإيعاز أمريكي خليجي، وذلك في مسعى لارباك القوى الثورية وجعلها عاجزة عن ملء حالة الفراغ والتعامل مع تداعياته وآثاره على مختلف الصعد، ولا سيّما ما يتعلق منها بحياة الناس العامة، بما يفضي في نهاية المطاف إلى تسريع حالة التشظي والانقسام المترافق مع حملات إعلامية وجهود خارجية وداخلية لتحريك الأوراق الطائفية والمذهبية وتأجيج النعرات المناطقية لتعميق المأزق وتعقيد المشهد بأكثر مما هو عليه.
في الحقيقة سعت امريكا إلى وضع اليمن أمام خيارين، فإما أن يعود اليمنيون إلى "بيت الطاعة" ويقبعوا مجدداً تحت سقف الوصاية ويصوتوا على تقسيم بلدهم، أو يُشهَر سلاح الفراغ والفوضى في بلادهم.
رفضت حركة "انصار الله" هذا الابتزاز، ووفقاً لما أورده موقع الوقت نقلاً عن مصادر مقربة من المكتب السياسي لأنصار الله، أوصلت الحركة رسالة إلى الرئيس اليمني مفادها إما العودة ومواصلة الرئاسة أو الخروج من البلاد، ذلك أن استمرار الوضع الحالي سیجعل اتخاذ القرار بشأن أهم القضايا الیمنیة أمراً صعباً، وتقول المصادر أن منصور هادي قد سحب قراره بالتخلي عن منصب الرئاسة، وسیواصل قریباً مهامه کرئیس للبلاد.
لاشك أن هذه الأحداث عززت لدى امريكا الاعتقاد بأن حركة أنصار الله لا تسير اعتباطاً، بل إنها تسير وفق خطى ثابتة وبرنامج محدد وتستند إلى شعبية صلبة ومقاتلين أشداء، الأمر الذي دفعها إلى تبني لغة أقل تشدداً تجاه هذه الحركة، واعتماد مبدأ الحوار الذي ألمح إليه المتحدث باسم البنتاغون في مؤتمره الصحفي، فامريكا لا تحترم ولا تحاور إلا الأقوياء، هكذا كان ديدنها، وهكذا سيبقى.