الوقت- في مقالٍ للكاتب "تومسون ماهنكان" تحت عنوان The Military and the Academy: Overcoming the Divide”، نشرت "الفورن أفيرز"، مقالاً يُبرز السعي الدؤوب للسياسة العسكرية الأمريكية، للتقليل من الفجوة بين العلوم العسكرية والعلوم الأكاديمية، عبر تعزيز العلاقة بين العسكريين والأكاديميين من أجل الإستفادة من تأثير العوامل الثقافية في تحويل دفة الصراع. فيما يُبرز المقال أيضاً، كيف يسعى الجيش الأمريكي، لتوظيف العلوم الإنسانية، في خدمة مصالحه العسكرية. لكن المقال يؤكد، كيف فشل الجيش الأمريكي في كلٍ من أفغانستان والعراق، كمثلٍ واضحٍ على الفشل في فهم خلفيات الشعوب الثقافية وبالتالي الفشل في فهم ديناميكيات الصراع.
يُشير المقال الى عددٍ من الجهود والتي كانت تهدف لبناء خلفيةٍ تُساهم في تعزيز الفهم الثقافي للعسكريين الأمريكيين حول الشعوب التي يسعى الجيش الأمريكي لإحتلال دولها. وتمثَّلت هذه الجهود، عبر عدة مشاريع عملية. فعلى سبيل المثال تم تنفيذ مشروع "Provincial Reconstruction Teams" أو "بعثات إعادة بناء الفَرق في التفكير"، والذي يضم كما يوضح الإسم، فِرقاً تتكون من ضباط بالجيش، الى جانب دبلوماسيين وخبراء في عمليات التنمية. ويهدف المشروع لدعم عمليات إعادة الإعمار في أفغانستان ثم العراق من بعدِها. كذلك قامت وزارة الدفاع الأمريكية، بالعمل على بناء مشاريع بحثية تحت عنوان "مبادرة مينيرفا البحثية"، والتي أسسها وزير الدفاع "روبرت غيتس" عام 2008، والتي وفّرت برنامجاً من المنح الجامعية، لتشجيع الطلاب والأكاديميين على دراسة الموضوعات التي تحتاج فيها وزارة الدفاع إلى مزيد من الخبرات، خصوصاً المواضيع التي تتعلق بالأيديولوجيات الجهادية. بعدها تم إنشاء برنامج " Af-Pak Hands Program"، في العام 2009، وهو برنامج يتعلق بأفغانستان وباكستان، يهدف الى إعداد كادر من الخبراء على دراية واسعة بالثقافات واللغات الأفغانية والباكستانية.
بالإضافة الى كل ذلك، فقد أشار المقال الى أنه وفي العام 2007، تم إقرار مشروع "Human Terrain System" أو "منظومة التضاريس الإنسانية"، والذي يُعتبر من أهم المشاريع التي حصلت، والهادف الى تأمين فهم أعمق للخلفية الثقافية للشعوب التي تسعى واشنطن للسيطرة على مقدراتها. وهو الأمر الذي تم العمل به خلال الحرب الأمريكية على كلٍ من أفغانستان والعراق. وذلك عبر الربط بين الأكاديميين المدنيين، المتخصصين في علوم مثل الأنتروبولوجيا وغيرها، وبين أفراد من الجيش الأمريكي. وقد سعى المشروع عملياً الى تحليل بيانات تتعلق بالخارطة البشرية للسكان المحليين في الدول، والقبائل، والمشاكل التي تواجههم، ثمّ تحليلها والخروج بنصائح استشارية للجيش الأمريكي.
ثم يُشير الكاتب الى أن المشروع واجه معارضة تتضمَّن انتقادات، من الأكاديميين للمجتمع العسكري الأمريكي، والذي لا تعتبره الأوساط الأكاديمية قادراً على الخلط بين العلم العسكري والعلم الأكاديمي. حيث أن نظرة الأكاديميين بشكل عام للحلول العسكرية، والقِيم التي يحملونها، تختلف بشكل كبير عن تلك الموجودة لدى العسكريين. وهو الأمر الذي ولَّد صعوبات في تنفيذ المشروع. بل وصل الأمر بالفرع التنفيذي لإتحاد علماء الأنتروبولوجيا الأمريكي، للقول بأنّ منظومة التضاريس الإنسانية، لا تُعتبر تطبيقاً أو ترجمةً مقبولة لنتائج خبرات علم الأنتروبولوجيا.
ثم يتحدث المقال عن أن ذلك لم يكن السبب الوحيد في عرقلة المشروع فقط، بل إن أداء الجيش الأمريكي في التعاطي مع الحروب التي خاضها، وتحديداً في العراق وأفغانستان، كانت بحد ذاتها مُبرراً لعدم إعطائه الثقة. فقد أشار الكاتب الى أن أفراد الجيش الأمريكي لم ينجحوا في التوأمة بين أدائهم العسكري، وحاجة الشعوب للشعور بأمان. بل إن الفشل في التنسيق مع السكان المحليين كان سمة الموقف دائماً، الأمر الذي ساهم في إيجاد صعوبةٍ في فهم ديناميكيات الصراع، لدى الجيش الأمريكي.
وفيما يخص نظرة الضباط الأمريكيين لذلك، يُشير المقال الى أنهم لم يكونوا يرحبون كثيراً بهذه المشاريع. وهو الأمر الذي أثبتته سياستهم العملية على الأرض في أفغانستان. حيث كانوا يُعيَّنون ضباط من الإحتياط والحرس الوطني لهذه المهام. فهم كانوا يرون في ذلك، حشواً للرؤوس بأمور التاريخ المعقّدة، ويعتبرونه أمراً يُساهم في تشتيتهم عن مهمتهم الحقيقية في محاربة الإرهاب.
وخلص الكاتب في نهاية المقال، الى تقديم عددٍ من النصائح للجيش الأمريكي، يمكن أن تكون بمثابة توصياتٍ مهمة، نسردها كما يلي:
- في وقتٍ يبدو أن واشنطن ستستمر في حربها ضد الإرهاب في الشرق الأوسط في المستقبل القريب، يُشير الكاتب الى أن مسألة استيعاب الملامح الثقافية والمجتمعية للفرد في الشرق الأوسط، يُعدّ أمراً لا مفر منه لتمكين أمريكا من خلق تحالفات جديدة. وبالتالي فإن التوصية الأولى، تتطلب تعيين المزيد من المهاجرين والمتّحدثين باللغات الأجنبية. لكن ذلك قد يواجه صعوبةً في نوعية الأشخاص المُنتخبين لهذه المهمة، إذ أنه يمكن للولايات المتّحدة الأمريكية استقبال المهاجرين ودمجهم في نسيجها الوطني، لكن المشكلة بحسب الكاتب تكمن في أن أغلب هؤلاء اللاجئين جاؤوا إما هرباً من بطش قوات بلاده المسلّحة، أو جاء من بلادٍ تنظر باحتقار للمؤسسات العسكرية، بحسب رأي الكاتب.
- من جهةٍ أخرى، يجب أن تشحذ واشنطن خبراتها الثقافية والإجتماعية، والإستثمار في العلوم الإنسانية، عبر زيادة عدد الضبّاط المتخصّصين في هذه العلوم، بدلاً من التركيز الحالي على تفضيل أصحاب التخصصات التقنية والهندسية.
- بعدها يأتي العمل على توسيع دائرة الدارسين للغات الأجنبية، من خلال الإعتماد على معاهد القوات العسكرية المتميّزة، والإستفادة أيضاً من ضباط الأكاديميات البحرية، وضباط الإحتياط، وكذلك توفير مزيد من الفرص لأعضاء الهيئة العسكرية للسفر والعمل بالخارج.
إذن، يغرق الجيش الأمريكي في سياسات قادته الهادفة لتأمين مصالح أمريكا الكبرى. وهو الأمر الطبيعي لأي جيشٍ يقوم بدوره. فيما يبدو واضحاً حجم الفشل في التجربة، والتي وإن كانت بعنوانها المُتعلق بفهم خلفيات الشعوب، أمراً حميداً، فإنها من ناحية الهدف، لا تسعى إلا لتثبيت قدرة واشنطن على التغلغل في الدول وتحديد مصير شعوبها. وبالتالي يمكن القول وبوضوح، بأن ما أشار له المقال من مساعٍ أمريكية باءت بالفشل، تُعتبر سبباً للفشل الإستراتيجي الأمريكي في الشرق الأوسط. فيما يُنتظر أن يُطالعنا الإعلام الغربي ومراكز أبحاثه، بسياساتٍ جديدة، لا تخلو من نكهة الإستعمار لدول المشرق. فهل يمكن إعتبار ما تقدّم دليلاً إضافياً على عدم استحقاق واشنطن التربُّع على زعامة العالم؟