الوقت - قبيل إنطلاق محادثات جنيف 3 لتسوية الأزمة السورية برعاية الأمم المتحدة برزت على السطح حقائق كثيرة تستحق التأمل لما لها من أهمية في إستشراف مستقبل هذه المحادثات.
ويمكن تلخيص هذه الحقائق بما يلي:
- فرضت الإنتصارات الميدانية التي حققتها القوات السورية على الجماعات المسلحة في الكثير من الجبهات خلال الأسابيع الأخيرة؛ فرضت على المعارضة السورية التوجه إلى جنيف دون شروط بعد أن كانت تماطل في السابق، وهذا يؤكد أن هذه المماطلة لم تكن سوى مسرحية تهدف إلى كسب الوقت، في حين أشارت مصادر دبلوماسية غربية إلى أن وزير الخارجية الامريكي "جون كيري" اتصل بنظيره السعودي "عادل جبير" و وبخه بعبارات قاسية للاسراع بارسال الوفد السوري المعارض المعروف بوفد الرياض إلى جنيف قائلا له "هل تريدون ان يمضي الروس والجيش السوري قدماً في سحق ما بقي من معارضة، أم تريدون ان تشنوا "عاصفة حزم" على الروس في سوريا! ".
- أكد مندوب سوريا الدائم لدى الأمم المتحدة ورئيس وفدها إلى محادثات جنيف "بشار الجعفري" أن الوفد الحكومي جاء إلى هذه المحادثات في الوقت المقرر تلبية لدعوة المبعوث الأممي إلى سوريا "ستيفان دي ميستورا" بهدف إطلاق عملية سوريّة جامعة دون شروط مسبقة ودون تدخل خارجي، في حين تأخر وفد المعارضة عن الحضور، وفي هذا دليل على عدم جديته أو إحساسه بالمسؤولية تجاه معاناة الشعب السوري.
وقال "الجعفري" في مؤتمر صحفي أن وفد الحكومة السورية لا يعرف حتى اللحظة من سيجلس للتفاوض معه من أطراف المعارضة، واصفاً من يتحدث عن شروط مسبقة بأنه هاوي سياسة وليس سياسيّ، لافتاً كذلك إلى أن تصريحات بعض المسؤولين الغربيين توحي بأن وفد الحكومة السورية يفاوض تلك الدول وليس معارضين سوريين.
وتعتقد دمشق أن مطالب الجماعات المعارضة لا تنسجم مع تراجع الخطاب السياسي الذي كانت تتبناه الدول الداعمة لهذه الجماعات وفي مقدمتها واشنطن وتركيا وقطر والسعودية بضرورة تنحي الرئيس السوري "بشار الأسد" عن السلطة كشرط لأي تسوية سياسية. وتخلت القوى الغربية عن إصرارها على وجوب تنحي "الأسد" عن السلطة خشية حدوث فراغ في السلطة قد تستفيد منه الجماعات الارهابية ويدفع بالتالي مزيداً من النازحين نحو أوروبا.
وتجدر الإشارة إلى أن المسار التفاوضي المعلن من قبل المبعوث الدولي لم يتحدث عن لقاءات مباشرة، إنما عن عملية حوار غير مباشرة تتم بواسطة "ديمستورا" ولا تملك الأمم المتحدة حتى الآن قائمة نهائية بأسماء من سيمثل المعارضة في هذه المحادثات وهذا يتنافى مع مضمون قرار مجلس الأمن 2254 وبياني فيينا بشأن سوريا.
- تحدثت بعض أطراف المعارضة الممثلة في محادثات جنيف عن فشل الحوار قبل إلتئامه، وفي هذا دليل إضافي على عدم جدية هذه الأطراف، وأنها لا تستهدف من مشاركتها سوى تضييع الوقت وتقويض الحوار.
- ينص قرار مجلس الأمن 2254 بجمع أكبر طيف من المعارضة بقرار السوريين أنفسهم، في حين سعت أطراف خارجية بينها السعودية إلى فرض أشخاص معينين موالين لها للمشاركة في هذه المحادثات، وهذا يتنافى مع القرار المذكور.
- تزامت محادثات جنيف بوقوع تفجير إرهابي في قلب دمشق، أدى إلى مقتل 45 شخصاً وجرح عشرات آخرين. وتبنى تنظيم "داعش" الإرهابي التفجير الذي وقع في حي السيدة زينب (ع) جنوب العاصمة. وهذا الاعتداء سيلقي دون شك بثقله على الجهود الدولية المبذولة لحل الأزمة السورية، ويعتبر نذير شؤم على محادثات جنيف.
- يعتقد المراقبون إن ما جرى خلال الأيام الماضية على مستوى الخلافات حول تحديد وفود المعارضة التي ستشارك في المؤتمر وضبابية المشهد فيما يتعلق بقائمة التنظيمات التكفيرية، لا يُوحي بالأمل في إحراز تقدّم يخفف من آلام السوريين ويخرجهم من حرب فُرضت عليهم منذ سنوات. ويرى هؤلاء أن جهات إقليمية ودولية لا تريد جلوس السوريين إلى طاولة واحدة لتقرير مصير بلدهم، خاصة أن ما يجري في الميدان لا يسير وفق ما تشتهي المعارضة التي تراهن على الوقت وتحلم بأن تتمكن الجماعات المسلحة التابعة لها تغيير شيء في المعادلة على الأرض متبعين بذلك سياسة حافة الهاوية.
في هذه الأثناء إعتبر محللون إن مجرد فكرة أن هناك جنيف واحد، وجنيف اثنين، وجنيف ثلاثة، لا يعني بالضرورة أن مسار المفاوضات يحرز تقدماً من أيّ نوع، فتعدّد المحاولات قد يعكس مجرد رغبة المجتمع الدولي في إغلاق ملف بات بين الأكثر مأساوية على المستوى الإنساني، ويرون إن الوصول إلى محطة جنيف ثلاثة قد يعني إعترافاً بالفشل في المحطات السابقة، ومع ذلك فإن ثمة تحوّلات جرت في المسافة بين جنيف الثانية قبل عامين وبين جنيف الثالثة يمكن أن تسهم في تحريك المفاوضات باتّجاه حلٍّ ما.
من خلال هذه المعطيات يمكن القول إن معظم المؤشرات تؤكد أن واشنطن وحلفاءها لا يريدون للأزمة السورية أن تسير في طريق الحل السياسي، بل يرغبون بتأجيج الأوضاع وإطلاق الفصول الأخيرة من الفوضى الهدامة التي إبتدعوها خدمة للكيان الإسرائيلي. من هنا يبدو أن أفق نجاح المحادثات محدود في ظل عجز المبعوث الأممي عن إيجاد أرضية واضحة لها، خصوصاً وإن الإطار العام أصبح حالياً أقل ملاءمة للمعارضة مقارنة مع الحكومة السورية التي إستعادت قواتها السيطرة على مواقع كثيرة، ما جعل المعارضة مستاءة لتقلص قدرتها على المناورة السياسية في حين تشعر حكومة "الأسد" بالقوة أكثر من أي وقت مضى.