الوقت- في صباح يوم الاثنين، استيقظ حي الشيخ جراح في القدس المحتلة على حدث يضيف فصلاً جديداً لملف اعتداءات الاحتلال الإسرائيلي على المؤسسات الدولية في الأراضي الفلسطينية. فقد اقتحمت قوات الاحتلال مقر وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا"، وصادرت هواتف حراس الأمن واحتجزتهم مع إغلاق المنطقة بالكامل، وفق ما أفادت به مصادر محلية ومحافظة القدس. عملية التفتيش، التي نُفذت بمساندة قوات كبيرة، لم تكن حدثاً عابراً بقدر ما كانت رسالة واضحة موجهة إلى المنظمة الدولية وسكان المدينة معاً.
وصفت محافظة القدس الاقتحام بأنه "انتهاك صارخ للقانون الدولي وتعدٍّ على حصانة مؤسسات الأمم المتحدة"، مؤكدة أنه يشكل خرقاً واضحاً لميثاق الأمم المتحدة ولقرارات مجلس الأمن، ومنها القرار 2730 الصادر في مايو/أيار 2024 والذي ينص صراحة على حماية مقرات وموظفي المنظمات الإنسانية. هذا الخرق المتكرر يضع تساؤلات كبيرة حول نوايا الاحتلال ومغزى التصعيد تجاه الأونروا تحديداً، خاصة في ظل الحرب المستمرة في قطاع غزة ومحاولات تجفيف الموارد الإنسانية.
المثير أيضاً أن المداهمة جاءت بعد حظر حكومة الاحتلال لعمل الأونروا في القدس، ما أدى إلى خروج الموظفين الدوليين من المنطقة وغياب الموظفين المحليين أثناء عملية الاقتحام. هذا التوقيت لم يكن أمراً اعتباطياً، بل يعكس سياسة إسرائيلية متراكمة تهدف إلى تقويض وجود الوكالة في المدينة وأسرلة قطاع الخدمات الموجهة للاجئين.
لماذا تستهدف إسرائيل الأونروا؟
للتصعيد أسباب متعددة، متشابكة تتوزع بين السياسية والأمنية والديموغرافية، أبرزها:
1. محاولة شطب قضية اللاجئين
الأونروا هي المؤسسة الدولية الوحيدة التي تحفظ الصفة القانونية للاجئين الفلسطينيين. وجودها يعني استمرار الاعتراف بحق العودة وفق القرار 194، وهو ما تعتبره حكومة الاحتلال "قنبلة سياسية" تهدد شرعية مشروعها الاستيطاني القائم على طمس الذاكرة الفلسطينية. لذلك، يجري منذ سنوات محاولات إسرائيلية لتفكيك الوكالة أو نقل مهامها إلى مؤسسات أممية أخرى، كما أشار المفوض العام فيليب لازاريني الذي تحدث عن "حملة تضليل مستمرة" تستهدف المنظمة ودورها.
2. السيطرة على القدس وتغيير هويتها
الشيخ جراح رمز للصراع على القدس. اقتحام مقر الأونروا ليس مجرد تفتيش روتيني، بل تأكيد على السطوة الإسرائيلية على المدينة، ومحاولة لمنع أي وجود دولي قد يعزز الطابع الفلسطيني ويحمي السكان من سياسات الطرد والتهجير. وإضعافها يعني فتح الباب أمام مشاريع الاستيطان والتوسع الديموغرافي اليهودي.
3. معاقبة الأونروا بسبب موقفها من الحرب على غزة
منذ بدء العدوان على غزة، لعبت الوكالة دوراً محورياً في إدارة مراكز الإيواء وتقديم الغذاء والدواء للمدنيين. هذا الدور الإنساني وضعها في مواجهة سياسية مباشرة مع حكومة الاحتلال التي تسعى لتحجيم وصول المساعدات وفرض سياسة تجويع واستنزاف جماعي. الاتهامات الإسرائيلية التي استهدفت موظفين في الوكالة بالتعاون مع المقاومة، رغم غياب الأدلة القانونية، كانت مدخلاً لتجميد تمويلها من بعض الدول في مرحلة سابقة.
4. اختبار المجتمع الدولي
الاقتحام المتكرر لمقرات الأمم المتحدة هو اختبار مقصود لحدود رد الفعل العالمي. كلما مرّ اعتداء دون محاسبة، توسعت دائرة الانتهاكات ، خاصة مع الانحياز الأمريكي السياسي والإعلامي لصالح هذا الكيان الغاصب.
صرخة تحذير من انهيار مبادئ النظام الدولي
أدان المفوض العام للأونروا فيليب لازاريني الاقتحام بشدة، معتبراً أنه "تجاهل صارخ لالتزام إسرائيل بحماية حرمة مقار الأمم المتحدة"، ومؤكداً أن ما يجري يشكل سابقة خطيرة قد تُشجع على تكرارها في دول أخرى. ما قاله لازاريني ليس مجرد تصريح بروتوكولي، بل تحذير من انهيار النظام الذي يحكم العلاقة بين الدول والمنظمات الدولية. فإذا سمح لدولة باقتحام مؤسسة أممية بالقوة العسكرية دون حساب، فهذا يعني فعلياً إسقاط مبدأ الحصانة وإضعاف قدرة الأمم المتحدة على التدخل في النزاعات.
كما أوضح المتحدث باسم الوكالة أن المقر لا يزال تابعاً للأمم المتحدة وغير مديون للبلدية كما ادّعت سلطات الاحتلال، مشيراً إلى أن قوات الاحتلال صادرت معدات تقنية وأثاثاً وممتلكات من داخل المبنى. هذه التفاصيل تكشف أن العملية لم تكن مجرد زيارة تفتيشية، بل إجراء عقابي مدروس يهدف إلى شل قدرة المكتب على العمل مستقبلاً.
سياسة لا حادثة منفردة
لا يمكن النظر إلى مداهمة مقر الأونروا بمعزل عن سلسلة انتهاكات واسعة استهدفت المؤسسات الدولية خلال الأشهر الماضية. ففي غزة، تعرضت مراكز الأمم المتحدة لقصف مباشر أدى إلى استشهاد مئات النازحين داخل المدارس، كما تم منع قوافل الإغاثة من العبور واحتجاز شاحنات الغذاء والأدوية. وفي الضفة الغربية، تم التضييق على الفرق الحقوقية ومنع مراقبين دوليين من دخول بعض المناطق.
استمرار هذا النمط من الاستهداف يعني أن حكومة الاحتلال تتعامل مع الأمم المتحدة كخصم سياسي وليس كجهة محايدة. فالتقارير الدولية التي توثق الجرائم، وتحقيقات مجلس حقوق الإنسان، والقرارات التي تدعو لوقف الحرب، كلها اعتُبرت تهديداً لصورة "الضحية الدائمة" التي تحرص حكومة الاحتلال على ترسيخها في الخطاب الغربي.
ماذا يعني هذا الانتهاك للمستقبل؟
التداعيات المحتملة كثيرة وخطيرة يمكن تلخيصها في إضعاف آخر المؤسسات الدولية العاملة في القدس، ما يترك الفلسطينيين في مواجهة مباشرة مع سياسات الاحتلال دون غطاء. بالإضافة إلى تسريع مشروع إنهاء قضية اللاجئين. وتكريس سياسة الإفلات من العقاب، وهو ما يقوض منظومة القانون الدولي بأكملها. ويضاف إلى ذلك محاولة تغيير ديموغرافية القدس عبر إقصاء المؤسسات التي تقدم خدمات للفلسطينيين وتعزز وجودهم.
الاقتحام ليس مجرد حادث أمني بل جزء من هندسة سياسية كبرى هدفها إعادة تشكيل الوعي والواقع معاً. حين تنجح حكومة الاحتلال في إخراج الأونروا من القدس، فإن الخطوة التالية ستكون استهداف دورها في الضفة وغزة، وصولاً إلى إنهائها كلياً. وبانهيار الأونروا يضعف أبرز شاهد حي على النكبة وجرح اللاجئين المستمر منذ 1948.
الأونروا كانت وستبقى ملفاً مؤرقاً لكيان الاحتلال لأنها تحفظ ذاكرة اللاجئين وتمنع شطب حق العودة. وفي كل مرة تقتحم فيها قوات الاحتلال مقراً للمنظمة، فإنها لا تقتحم جدراناً إسمنتية فحسب، بل تحاول اقتلاع حق تاريخي من جذوره.
