الوقت - تأتي زيارة البابا ليو الرابع عشر إلى المشرق، مهد الشرائع الإبراهيمية وموطن الرسالات، في حقبةٍ يشهد فيها العالم استعار أتون الأزمات الإنسانية، وتفشي ظاهرة رهاب الإسلام الممنهجة من قبل بعض القوى الغربية، ناهيك عن فاجعة غير مسبوقة تلم بالأراضي الفلسطينية المحتلة، ولما كان البابا لا يمثّل زعامةً دينيةً متفردةً بين أتباع الديانة المسيحية فحسب، بل يعدّ قامةً بارزةً ذات مشروعية أخلاقة وثقل سياسي في المحافل الدولية؛ فإن هذا السفر الميمون لا يقتصر على كونه خطوةً لتعزيز أواصر الحوار بين الأديان، بل يغدو - نظراً للمكانة الروحية لقائد الكاثوليك في العالم - خطوةً تاريخيةً لتحويل الرمزية إلى فاعلية مؤثرة انتصاراً للحق والعدالة، ودفعاً للظلم عن المستضعفين.
منزلة البابا: من الرمزية المجردة إلى الفعل المؤثر
في غضون العامين المنصرمين، طالع العالم أحد أشدّ صفحات التاريخ المعاصر قتامةً وسواداً، فذلك الكيان الذي ينتحل زوراً صفة اتباع الديانة اليهودية وتعاليم كليم الله موسى (عليه السلام)، قد أجرى في غزة انهاراً من الدماء، وزرع الدمار والموت، مقترفاً فظائع اعتبرها جهابذة القانون ونشطاء حقوق الإنسان من أعظم مآسي هذا القرن، آلاف النساء والأطفال قضوا تحت وطأة القصف، وملايين يواجهون سياسات التجويع والحصار والتهجير المنظم، بينما تلسع برودة المتوسط أجساد النازحين العرايا الذين عزّ عليهم أدنى مقومات البقاء.
إن صمت الحكومات المريب، وتغليبها لغة المصالح الاقتصادية والجيوسياسية وحسابات القوة على منطق العدالة والأخلاق، قد ألقى بتبعات المسؤولية الجسام - أكثر من أي وقت مضى - على كاهل الرموز الدينية والهامات الأخلاقية في العالم؛ أولئك الذين تدور رحى رسالتهم حول قطب الحقيقة والعدالة والقيم الإنسانية، خلافاً للساسة وألاعيبهم، والبابا، الذي سبق وأن صدع بالحق مطالباً بوقف المجازر في غزة وحماية العزل، يجد نفسه اليوم أمام تكليف إلهي وتاريخي: أن يوظف صيته الذائع ونفوذه الدولي للدفاع عن أمةٍ خطيئتها الوحيدة أنها ولدت في أرض محتلة، آثرت القوى العظمى أن تغضّ الطرف عن عذابات أهلها قرباناً لمذبح السياسة.
لبنان: ضيافة تحت نير العدوان
يحلّ البابا ضيفاً على لبنان، والبلد يرزح تحت وطأة عدوان صهيوني سلب الأمن والسكينة من مئات الآلاف من مواطنيه، شيعةً وسنةً، مسيحيين ودروزاً، في حين تخيّم نذر تصعيد وشيك وعدوان جديد في الأفق القريب. لبنان، ذاك البلد الذي يضمّ أكبر نسبة من المسيحيين في غرب آسيا، ويأوي في الوقت ذاته ما يربو على المليون لاجئ سوري وفلسطيني.
في هذه الأرض التي تعانقت فيها الأديان والثقافات قروناً متطاولةً، خفتت أصوات النواقيس والمآذن لتعلو بدلاً منها صفارات الإنذار، وشلت حياة الناس اليومية جراء الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة.
إن صمت القوى العالمية إزاء هذه الارتكابات، يضاعف المسؤولية على القادة الدينيين كالبابا لتعرية هذا الظلم. ولم يتورع الصهاينة، قبل أيام قلائل من الزيارة البابوية، وفي خطوة تنطوي على صلف وتحدٍ سافر لأهداف الرحلة السلمية، عن اغتيال قيادي بارز في حزب الله ببيروت، وحتى عشية انتقال البابا من تركيا إلى لبنان، لم تكف مدافع الصهاينة عن صبّ حممها، في مسعى خبيث ومكشوف لإفشال الزيارة وإجهاض مساعيها.
وفي “حريصا”، ذلك المزار الكاثوليكي فوق الجبل والمطل على زرقة المتوسط شمال بيروت، قال البابا يوم الاثنين: “إن الصلاة… تمدنا بالعزم لنبقي جذوة الأمل متقدةً، ولنواصل العمل الدؤوب حتى وإن كانت قعقعة السلاح تصم الآذان من حولنا”.
دور البابا في تجريد الصهيونية من سلاحها الأيديولوجي
وما يدمي القلب ويبعث على الأسى، أن يُتخذ الدين ستاراً لتبييض صفحة هذه الجرائم أمام الرأي العام الغربي، ومواجهة أي نقد أو صحوة للضمير الإنساني بتهمة “معاداة السامية”، ومن هنا، تكتسب زيارة البابا أهميةً قصوى لمقارعة هذا النهج، ولا سيما أن عدسات الإعلام العالمي مسلطة بدقة على هذا الحدث، حيث يغطي وقائعه ما يزيد على 1200 صحفي.
في خضم هذا المشهد، فإن نقداً صريحاً، جلياً وأخلاقياً يصدر عن قداسته تجاه هذه السياسات، كفيل بإحداث شرخ غائر في السردية الصهيونية الزائفة، ولعب دور محوري في تجريد الصهيونية من سلاحها الأيديولوجي، وإبطال مفعول القصف الدعائي الذي تمارسه المنابر الخاضعة للوبي الصهيوني، ما يهيئ الأرضية لتعاطف أوسع من الشعوب المسيحية مع مظلومية الشعوب المجاورة للأراضي المحتلة.
