الوقت - تمضي عجلة الأحداث في غرب آسيا مسرعةً، دون أن يلوح في الأفق بصيص أمل لانقشاع غمة التوتر، وفي خضم ذلك، يطفو على سطح النقاش السياسي حديث العودة إلى ميادين الحرب واحتمالية نشوب نزال جديد بين أنصار الله والمملكة السعودية.
إن الراهن بين الطرفين مزيج من هدنة واهية كخيط العنكبوت، وتوترات تنهش الاقتصاد، وظلال قاتمة ألقتها حرب غزة واضطرابات البحر الأحمر، لقد اندلعت شرارة الصراع عام 2015 حين حشدت السعودية أحلافها لترميم عرش سلطة تابعة لها، بيد أن هدنة غير رسمية سادت منذ عام 2022، غير أن خبراء السياسة في الغرب يتوقعون أن يشهر اليمنيون سيوفهم في وجه المملكة عما قريب.
وإدراكاً لاحتمال انفجار الموقف، ويقيناً بعجز الجيش السعودي الذي نكس راياته وباء بالفشل الذريع في مقارعة البأس اليماني رغم ترسانته المدججة بأحدث ما جادت به مصانع أمريكا بلا حساب، فقد عزم الحليفان السعودي والأمريكي على أعلى المستويات إجراء مناورات كبرى في الولايات المتحدة، تحاكي سيناريو استئناف القتال على الحدود الجنوبية للمملكة.
وقد تواترت الأنباء الإعلامية بأن الجيش السعودي قد سيّر جحافله المدرعة صوب الولايات المتحدة، حيث استعانت بهذه الأسلحة والعتاد لإجراء تلك المناورات، ومؤخراً، أفادت المصادر العربية بأن القوات البرية السعودية ونظيرتها الأمريكية قد اختتمت مناورات “كوينسي-1” في قاعدة فورت إيروين، في مشهدٍ يروم تعزيز التعاون الميداني وصقل الخبرات القتالية، وفق ما أعلنته وزارة الدفاع السعودية.
انصبت هذه المناورات على رفع الجاهزية القتالية ومزج الخبرات في بيئات الحرب المتنوعة، ويبدو جلياً من طبيعة هذا الحراك أن الرياض قد ابتاعت خدمات استشارية من واشنطن لتكون لها دليلاً ومرشداً إذا ما دارت رحى الحرب مجدداً مع اليمنيين.
وفي هذا السياق، نشرت مجلة “الإيكونوميست” تقريراً يسلط الضوء على الخطر المحدق بالمملكة من جانب حركة أنصار الله، مؤكدةً أن الحرب على تخومها الجنوبية لم تضع أوزارها بعد. وسردت المجلة كيف بسط اليمنيون، نفوذهم على صنعاء وحواضر الشمال عام 2014، وكيف غرقت السعودية في وحل اليمن رغم تحالفها العريض، لينقضي عقد من الزمان وأنصار الله ما زالوا القوة المهيمنة على غرب اليمن حيث يقطن السواد الأعظم من السكان.
ويرى المحللون أن طوفان السابع من أكتوبر قد وجّه بوصلة اليمنيين شطر فلسطين المحتلة، فأمطروا الكيان الصهيوني بوابل من المسيرات والصواريخ نصرةً للمستضعفين، ما خفّف الاحتقان مع الرياض، غير أن الهدوء النسبي الذي تلا ذلك قد لا يدوم طويلاً.
وتتوجّس العواصم الغربية والرياض خيفةً من عودة أنظار اليمنيين لتصوب سهامها نحو السعودية، فقد توالت التحذيرات الصارمة من صنعاء في الأسابيع الماضية، إذ وصف السيد عبد الملك الحوثي السعودية بالشراكة مع الكيان الصهيوني، وحذّر اليمنيون الجارة الشمالية من مغبة استمرار الحصار الاقتصادي، متوعدين بأن استمرار هذا النهج سيشعل فتيل الهجمات من جديد.
ويجمع الخبراء على أن حرب السنوات الثماني كانت وبالاً على المملكة وهزيمةً استراتيجيةً نكراء؛ فعلى الرغم من الميزانيات الفلكية، والترسانة الغربية المتطورة، والتحالف العشري، والإسناد اللوجستي الأنجلو-أمريكي، خرجت الرياض خالية الوفاض تجر أذيال الخيبة دون أي مكسب يذكر سوى حفظ ماء الوجه بحكومة صورية في عدن.
واليوم، إذا ما سوّلت لابن سلمان نفسه إذكاء نار الفتنة أو الانزلاق في مواجهة مباشرة بذريعة أحداث البحر الأحمر، فعليه أن يوطن نفسه على دفع ضريبة باهظة وتجرع كأس مريرة تفوق سابقتها بمراحل.
لقد غدت أنصار الله اليوم جيشاً نظامياً ذا شوكة، لا مجرد حركة فتية كما كانوا عام 2014، فآنذاك، لم يكن في جعبتهم صواريخ باليستية ولا مسيرات ولا صواريخ مجنحة، أما اليوم فقد تبدل الحال وتعاظم المحال.
إنهم باتوا يمتلكون صواريخ باليستية يتجاوز مداها الألفي كيلومتر كصواريخ “طوفان” و"فلسطين-2" و"توتشكا" المطور، وصواريخ كروز دقيقة الإصابة كـ “قاصم” و"صقر"، ومسيرات انتحارية تطوي المسافات، ودفاعات جوية متطورة أحالت سماء اليمن منطقةً محرمةً على طائرات الغزاة، بعد أن صقلتهم تجربة الدفاع لسنوات طوال أمام آلاف الغارات.
وبفضل هذه القدرات المتعاظمة، باتت مفاصل الحياة في السعودية ومشاريعها الحيوية في مرمى نيران اليمنيين؛ فمنشآت “أرامكو” في رأس تنورة وينبع وجازان، وحتى بقيق، أضحت تحت رحمة الصواريخ الدقيقة. وما هجوم بقيق وخريص في سبتمبر 2019، الذي شلّ نصف إنتاج النفط السعودي أياماً، إلا نذر يسير وقرصة أذن تحذيرية؛ فالترسانة اليمنية اليوم تضاعفت قوةً ودقةً، ناهيك عن محطات التحلية في جدة وينبع، شريان الحياة المائي للمملكة، التي تقبع على مرمى حجر من الحدود.
والأدهى من ذلك كله، هو مصير المشاريع الاقتصادية العملاقة التي راهن عليها ولي العهد؛ فإن رصاصةً واحدةً طائشةً كفيلة بأن تبدد أحلام الاستثمار الأجنبي وتذروها رياحاً، مما ينذر بإفلاس الخطط الاقتصادية وهروب رؤوس الأموال، وهو ما لا يشتهيه الأمير الشاب الطامح ولا يروق له.
وختاماً، حري بصناع القرار في الرياض أن يقلبوا الرأي ويطيلوا التفكير قبل أن يتحولوا إلى دمى تحركها أصابع تل أبيب وواشنطن لخوض حرب عبثية جديدة، وقبل أن يغامروا بمقدرات بلادهم وثرواتها، فعليهم أن يتدبروا عواقب استفزاز أنصار الله واستمرار حصار اليمن، لئلا يكون حصادهم الندامة والخسران المبين.
