الوقت- بينما تتهاوى بيوت غزة تحت القصف ويُدفن أطفالها تحت الركام، تتقدّم الولايات المتحدة بمشروع تُسمّيه "غزة الجديدة"، وكأنّ الدم الفلسطيني مجرّد فرصة هندسية لتصميم واقع جديد يخدم الكيان الصهيوني. تدّعي واشنطن أن خطتها تهدف إلى الإعمار والاستقرار، لكنها في جوهرها ليست سوى غلاف ملوّن لمشروع استعماري قديم، هدفه خنق ما تبقّى من روح المقاومة وتجريد الفلسطيني من قراره ومصيره. تتحدّث أمريكا عن التنمية بينما تموّل آلة الحرب التي دمّرت كل شيء، وتعد بإعادة البناء بينما تمنح القاتل حق الإشراف على الضحية. هذه ليست خطة سلام، بل خطة إذعان، تُدار بخيوط أمريكية وتخدم أجندة الكيان الصهيوني. إن مواجهة "غزة الجديدة" ليست رفضاً للإعمار، بل رفضٌ لأن يتحوّل الإعمار إلى أداة استعمار جديدة، تغسل أيدي واشنطن من جرائمها وتمنح الكيان الصهيوني شرعية الاستمرار في نهب الأرض وسلب السيادة.
واشنطن والاحتلال… شراكة في إعادة الصياغة
منذ عقود، تتعامل الولايات المتحدة مع فلسطين كملف أمني كيان صهيوني، لا كقضية شعب يسعى للحرية. مشروع "غزة الجديدة" ليس استثناءً، بل استمرارٌ لنهج قديم يقوم على هندسة الخضوع تحت شعار "السلام الاقتصادي". فواشنطن التي سلّحت العدو وغطّت جرائمه، تريد اليوم أن تُشرف على "إعادة الإعمار" لتضمن أن تبقى غزة تحت المراقبة الأمنية للكيان الصهيوني، ولو بواجهة مدنية مزيّفة.
الولايات المتحدة لا تعيد بناء غزة، بل تعيد تشكيلها بما يخدم أمن الكيان الصهيوني. فهي لا ترى في الفلسطيني إنساناً ذا حقوق، بل كائناً يجب احتواؤه ضمن منظومة أمنية صارمة، تُخنق فيها إرادة المقاومة وتُفرّغ من معناها الوطني.
المؤسسات الغربية المشاركة في هذا المشروع تتحرك كأذرع سياسية تُجمّل صورة الاحتلال. إن ما يُسمّى “التعاون الأمني” ليس إلا غطاءً لتكريس الوصاية الأمريكية الكيان الصهيونيّة على قطاع غزة، وتثبيت واقع الاحتلال بثوب إنساني خادع.
خطاب الإعمار… واجهة الخداع الأمريكي
تُقدّم واشنطن مشروعها بعبارات براقة: “التنمية”، “الاستثمار”، “الازدهار”. لكن خلف هذه المفردات المخدّرة يختبئ مشروع لتجريد الفلسطيني من كرامته السياسية. فالإعمار عند أمريكا ليس حقاً، بل رشوة مشروطة بالسكوت عن الاحتلال، ونزع السلاح، وقبول "الواقع الأمني" الذي يفرضه الكيان الصهيوني.
تسعى الولايات المتحدة لتحويل الإعمار إلى أداة ابتزاز سياسي، تُقايض الفلسطيني على لقمة عيشه مقابل تخليه عن مقاومته. إنها تنقل الاحتلال من الدبابة إلى البنك، ومن القصف إلى القرض، لتصبح السيطرة ناعمة الشكل ولكن عميقة الأثر.
إن من يدّعي الإعمار لا يفرض الحصار، ومن يزعم التنمية لا يُشرف على القتل. لذلك، فإن مشروع “غزة الجديدة” ليس سوى استكمال للحرب بوسائل أخرى. فبينما توقّف القصف مؤقتاً، يستمر الكيان الصهيوني في تغيير الخرائط وإعادة تشكيل الوعي الجمعي للفلسطيني بما يخدم استراتيجيته: غزة هادئة، لكنها خاضعة.
الدور العربي والدولي… شركاء في التواطؤ
تحاول واشنطن جرّ بعض الدول العربية إلى لعب دور “الوصي” على غزة، بحجة المساعدة في إدارتها أو تمويل إعمارها. لكن الحقيقة أن المطلوب هو تطبيع الاحتلال وشرعنة هيمنته عبر بوابة عربية. إن أي مشاركة عربية في هذا المخطط دون ضمان السيادة الفلسطينية ستكون وصمة عار تاريخية.
المؤسف أن بعض الأنظمة ترى في الخطة فرصة لتلميع صورتها أمام الغرب، ولو على حساب دماء الغزيّين. أما الأمم المتحدة، فصمتها المريب يجعلها شريكة بالصمت في تحويل الاحتلال إلى “مشروع دولي منسّق”.
الولايات المتحدة لا تريد حلولاً بقدر ما تسعى لتفريغ القضية الفلسطينية من مضمونها، وتحويلها إلى أزمة إنسانية بلا جذور سياسية. إن من يشارك في “غزة الجديدة” يُشارك عملياً في إعادة رسم خريطة الاحتلال الكيان الصهيوني. والتاريخ لن يغفر لمن جعل من إعمار غزة سلّماً لإطالة عمر الاحتلال بدل إنهائه.
الأمن الكيان الصهيوني مقابل السيادة الفلسطينية
جوهر "غزة الجديدة" يقوم على معادلة خبيثة: أمن الكيان الصهيوني أولاً، ثم حياة الفلسطيني إن سمحت الظروف. هكذا يُعاد تعريف الأمن ليصبح سلاحاً ضد الحرية، ويُطلب من الشعب الفلسطيني أن يعيش تحت وصاية دبابات الكيان الصهيوني مقابل وعود زائفة بالاستقرار.
لكن أي أمن هذا الذي يُبنى على أنقاض البيوت ودماء الأطفال؟ أي استقرار يُولد من رحم الحصار؟ الحقيقة أن ما يُسمّى “غزة الجديدة” ليس سوى هدنة دائمة في ظل الاحتلال الكيان الصهيوني، تجعل من القطاع سجناً واسعاً تحت إشراف أمريكي وتمويل عربي.
من دون حرية، لا أمن. ومن دون سيادة، لا إعمار. لهذا فإن الرد الحقيقي على المشروع الأمريكي هو مقاومة سياسية وشعبية ترفض الوصاية وتؤكد أن الأمن لا يُشترى بالدولار، بل يُبنى بالكرامة.إن غزة التي صمدت في وجه القنابل لن تنكسر أمام مؤامرة الورق والمال. إنها ستبقى شوكة في حلق المحتل وحليفه الأمريكي.
الإعلام كسلاح لتزييف الوعي
لم يعد السلاح الأمريكي يقتصر على الطائرات والقنابل، بل يمتد إلى الكاميرات والشاشات. فالمشروع الأمريكي – الصهيوني يعتمد على آلة إعلامية ضخمة تعمل على تلميع وجه الاحتلال وتشويه صورة المقاومة.
تُبثّ روايات كاذبة عن “الإعمار” و“التعايش” لتغطية الجرائم، ويُقدَّم الكيان الصهيوني كضحية تدافع عن نفسها، بينما يُصوَّر الفلسطيني كمخرّب يعارض السلام. هذا الانقلاب في المفاهيم ليس صدفة، بل جزء من معركة وعي تُخاض يومياً على كل منبر وشاشة.
تسعى واشنطن إلى صناعة وعي عربي جديد، وعيٍ منزوع الغضب، يقبل الواقع المفروض ويخاف من كلمة "مقاومة". إن مواجهة “غزة الجديدة” لا تقتصر على رفضها السياسي، بل تتطلّب تفكيك خطابها الإعلامي المضلِّل الذي يحوّل الجلاد إلى بطل.
فمن يملك الكلمة يملك القدرة على تشكيل الوعي، ولهذا فإن معركة الإعلام لا تقل خطورة عن معركة السلاح. إن فضح الأكاذيب الأمريكية – الصهيونية واجب وطني يوازي الدفاع عن الأرض.
في الختام، مشروع "غزة الجديدة" ليس خطوة نحو السلام، بل خطوة نحو تثبيت الاحتلال الكيان الصهيوني بأدوات ناعمة. إنه ليس إعماراً، بل استعمار مُعاد تدويره بلغة اقتصادية وإنسانية. فحين تُقدّم أمريكا المال بيد وتدعم القصف بالأخرى، تسقط كل الأقنعة. إن كل من يروّج لهذا المشروع يشارك في جريمة تحويل غزة إلى مختبر للهيمنة الأمريكية الكيان الصهيونيّة. المستقبل لا يُبنى على أنقاض الكرامة، ولا يُدار من غرف واشنطن أو الكيان الصهيوني.الحل الحقيقي هو الاعتراف بالحق الفلسطيني الكامل في الحرية والسيادة وتقرير المصير. وأي مشروع لا يبدأ من هذا المبدأ هو مؤامرة لا خطة.إن غزة التي واجهت أعتى الحروب لن تُخدع بخطاب التنمية الأمريكي، لأنها تعرف أن من يريد السلام يبدأ برفع الحصار، لا بتجميله. "غزة الجديدة” لن تكون إلا وجهًا استعمارياً جديداً لاحتلال قديم — ورفضها هو واجب وطني وأخلاقي على كل من يؤمن بالحرية.
