الوقت- تعيش منظومة الطاقة في كيان الاحتلال الإسرائيلي واحدة من أخطر أزماتها البنيوية منذ قيامه، وسط مؤشرات متزايدة على اقتراب الانهيار الكامل لشبكته الكهربائية في حال تعرضه لأي هزة أمنية أو تقنية كبرى، فحسب تقديرات حديثة صادرة عن باحثين وخبراء في مجال الطاقة والسياسات العامة، قد يجد الكيان نفسه قريبًا بلا كهرباء في أهم مواقعه الحيوية، نتيجة اعتماده المفرط على الغاز الطبيعي، وضعف قدراته التخزينية، وتركّز منظومته الكهربائية في عدد محدود من المنشآت والمرافق الحساسة.
وتأتي هذه التحذيرات في وقت يشهد فيه الكيان اضطرابات متزايدة على المستويين الأمني والاقتصادي، ما يجعل أي خلل في منظومة الطاقة أشبه بـ"انفجار داخلي" قد يشلّ مفاصل الكيان ويقوّض قدرتها على الصمود في الحروب أو الأزمات الممتدة.
ثغرات خطيرة في منظومة الطاقة
دراسة حديثة قادها إيريز كوهين، من قسم الدراسات الشرق أوسطية والعلوم السياسية في جامعة "أريئيل" بالضفة الغربية المحتلة، كشفت عن ثغرات عميقة في بنية نظام الطاقة في كيان الاحتلال، محذّرة من أن البلاد "غير مهيأة لتحمّل انقطاعات طويلة الأمد في الإمدادات الحيوية".
وقال كوهين إن المنظومة الحالية تعتمد على "هشاشة مفرطة"، تجعل أي هجوم صاروخي، أو عملية سيبرانية، أو خلل تقني في منصة غاز بحرية قادرة على تعطيل الكهرباء والمياه والخدمات الصحية في لحظات حرجة، وأشار إلى أنّ الاعتماد المفرط على الغاز الطبيعي هو الخطر الأكبر في المشهد الحالي، إذ تشكّل الكهرباء المولّدة من الغاز نحو 70% من إجمالي إنتاج الطاقة في الكيان، معظمها من حقلَي "تمار" و"ليفياثان" البحريين في المتوسط.
الاعتماد المفرط على الغاز الطبيعي
هذا التركّز المفرط على الغاز البحري يجعل المنظومة عرضة لأخطار متعددة الأوجه، فخلال العدوان الأخير على غزة، اضطرّت شركات الطاقة إلى إغلاق منصة "تمار" مؤقتًا بسبب المخاوف من الصواريخ القادمة من القطاع، ما كشف هشاشة البنية التحتية وارتباطها الوثيق بالاستقرار الأمني.
كما أن عدم وجود احتياطات أو مخزون استراتيجي للغاز يعني أن أي تعطّل في الإمداد، ولو لساعات، يمكن أن يؤدي إلى انقطاع واسع في الكهرباء، وفي ظل غياب مصادر بديلة قوية مثل الطاقة المتجددة أو الفحم أو النفط، تصبح المنظومة رهينةً لمنصّات بحرية معرّضة دومًا للخطر.
ويرى خبراء الطاقة أن الكيان بنى منظومته الكهربائية بعقلية تجارية أكثر منها استراتيجية، إذ ركّز على تصدير الغاز وتحقيق الأرباح، دون أن يؤسّس بنية أمان واحتياط داخلي تحميه في حالات الطوارئ أو الحروب الطويلة.
فجوة العرض والطلب: خطر النقص في الأفق
حذر تقرير لعام 2024 من احتمال حدوث نقص في الغاز الطبيعي بحلول عام 2026، بسبب التوسع السريع في الطلب المحلي على الكهرباء، وخصوصًا من قطاعات الصناعة والتكنولوجيا والمستوطنات الجديدة.
وأشار التقرير إلى أنّ هذا النقص، إذا لم تُتخذ إجراءات عاجلة، قد يتسبب بخسائر اقتصادية بمئات ملايين الشواقل سنويًا، ناهيك عن تعطيل الإنتاج في المصانع وشركات التكنولوجيا التي تمثّل العمود الفقري للاقتصاد الإسرائيلي.
ويرى محللون اقتصاديون أن سياسة "الاكتفاء المؤقت" التي تتبعها وزارة الطاقة تمثل قنبلة موقوتة، إذ لم تُنشأ بعد أي منشآت تخزين كبرى للغاز، ولا توجد خطوط بديلة برية لتأمين الإمدادات في حال استهداف المنصات البحرية.
غياب أنظمة التخزين: خطر الانقطاع الكامل
رغم أنّ الطاقة المتجددة تمثل نحو 12% فقط من إنتاج الكهرباء، فإن الكيان يفتقر إلى منظومات تخزين قادرة على ضمان استمرارية الإمداد في حالات الطوارئ، فشبكة الكهرباء الإسرائيلية ما زالت تعتمد على التدفق اللحظي للطاقة دون أي وسيلة احتياطية فعالة.
ويشير كوهين إلى أن "الأمر ليس ترفًا بيئيًا كما يظن البعض، بل هو شبكة أمان وطنية"، محذرًا من أن غياب القدرة على تخزين الطاقة سيجعل البلاد عاجزة عن تشغيل منشآتها الحيوية عند أي هجوم أو كارثة طبيعية أو انهيار في خطوط الإمداد.
وحسب تقديرات بحثية محلية، فإنّ بناء منظومة تخزين فعالة للطاقة في كيان الاحتلال يتطلب استثمارات تفوق 25 مليار شيكل على مدى عشر سنوات، لكن هذه الخطط تواجه عراقيل مالية وإدارية، إلى جانب تضارب المصالح بين وزارة الطاقة والشركات الخاصة المسيطرة على سوق الغاز.
المركزية المفرطة: خطر نقطة الضعف الواحدة
من أبرز الثغرات التي كشفتها الدراسة أيضًا المركزية الشديدة في شبكة الكهرباء، إذ تعتمد المنظومة الوطنية على عدد محدود من المحطات الكبرى، بحيث يمكن لأي ضرر في محطة واحدة أو منصة غاز رئيسية أن يتسبب بانقطاع الكهرباء على مستوى البلاد.
هذا النموذج الذي وُضع في زمن كانت فيه الحروب قصيرة ومحدودة النطاق، أصبح اليوم نقطة ضعف استراتيجية في عصر الصواريخ الدقيقة والطائرات المسيّرة والهجمات السيبرانية، فحتى ضربة محدودة أو هجوم إلكتروني منسق يمكن أن يشلّ المنظومة كلها، ويغرق المدن والمناطق الصناعية في الظلام.
ودعا كوهين في دراسته إلى التحول نحو نموذج لامركزي يعتمد على "شبكات محلية صغيرة" يمكنها العمل بشكل مستقل عن الشبكة الوطنية في حالات الطوارئ، وخاصة لتغذية المستشفيات، ومحطات المياه، والمنشآت العسكرية الحساسة.
الانعكاسات الاقتصادية والأمنية لانقطاع الكهرباء
أي انقطاع واسع في الكهرباء سيترك آثارًا كارثية على الاقتصاد في كيان الاحتلال، إذ تعتمد قطاعات حيوية مثل التكنولوجيا المتقدمة (الهايتك)، والاتصالات، والخدمات المالية على الإمداد الكهربائي المستمر والدقيق.
وتُعدّ شركات التكنولوجيا الإسرائيلية من أكثر القطاعات حساسية لأي اضطراب، نظرًا لارتباطها بعقود وشراكات دولية تتطلب عملًا على مدار الساعة، وقد حذّر اتحاد الصناعيين الإسرائيليين من أن كل ساعة انقطاع كهربائي في منطقة تل أبيب تكلف الاقتصاد ما يقارب 150 مليون شيكل من الخسائر المباشرة.
أما على الصعيد الأمني، فإن توقف الكهرباء عن المرافق العسكرية أو منشآت الدفاع الجوي أو أنظمة المراقبة الحدودية، قد يعني شللاً في القدرات الدفاعية أثناء الحرب، فالمراقبة الجوية، وأنظمة الإنذار المبكر، وإدارة الاتصالات العسكرية تعتمد بالكامل على تدفق كهربائي مستقر.
كما أن توقف الكهرباء في المستشفيات والمنشآت الطبية سيؤدي إلى أزمة إنسانية داخلية في ظل محدودية المولدات الاحتياطية، ما قد يفرض على الحكومة اتخاذ قرارات صعبة تتعلق بتوزيع الطاقة بين القطاعات العسكرية والمدنية في أوقات الطوارئ.
الحروب الطويلة... كابوس المنظومات الحيوية
خلال الحرب الأخيرة على غزة، اضطرت حكومة الاحتلال إلى تشغيل المنظومة الكهربائية في وضع طوارئ مطوّل، وسط مخاوف من تعرض المنصات البحرية أو خطوط الغاز لأي استهداف مباشر، وأكدت تقارير محلية أنّ الجيش وضع سيناريوهات لانقطاع الكهرباء في مناطق واسعة إذا ما تعرضت منشأة "ليفياثان" لهجوم صاروخي أو تخريبي.
لكن الأخطر من ذلك، أن كيان الاحتلال يخوض منذ سنوات حروبًا طويلة الأمد — سواء في غزة أو في جبهات الشمال — ما يجعل استهلاك الطاقة في حالة توتر مستمر، دون وجود بنية تحتية مرنة قادرة على الصمود لفترات طويلة.
وتؤكد مراكز بحثية أن "الاقتصاد الإسرائيلي المبني على التكنولوجيا والخدمات" غير مهيأ لتحمل انقطاع الكهرباء لأيام أو أسابيع، لأن كل أنظمة المعالجة والاتصال والتخزين السحابي مرتبطة بخوادم تعمل على مدار الساعة.
بمعنى آخر، أي توقف في الإمداد الكهربائي لا يعني فقط ظلامًا في المدن، بل شللاً في الاقتصاد الرقمي، وتوقفًا في تدفق البيانات والمعلومات التي تمثل اليوم العمود الفقري للكيان.
من الطاقة إلى الاقتصاد: تداعيات انهيار شامل
إذا ما تحقق سيناريو الانقطاع الكبير، فإن أولى القطاعات المتضررة ستكون القطاع التكنولوجي والمصرفي، تليه الصناعات العسكرية، ثم قطاع المياه والصحة، فهذه القطاعات تعتمد على الكهرباء بشكل مباشر، وتفتقر إلى بدائل فاعلة.
وفي ظل تصاعد التوترات الأمنية في المنطقة، يشكل انهيار شبكة الطاقة خطرًا وجوديًا على كيان الاحتلال، ليس فقط من منظور اقتصادي، بل أيضًا من زاوية الردع، إذ إنّ فقدان القدرة على إدارة البنية التحتية الحيوية سيضعف ثقة المجتمع في الحكومة، ويضرب "صورة القوة والاستقرار" التي تحرص الدعاية الإسرائيلية على ترسيخها في الداخل والخارج.
نحو إصلاح مؤجل
ورغم هذه التحذيرات المتكررة، لا تزال الخطط الحكومية لإصلاح قطاع الطاقة تراوح مكانها، بين حسابات مالية ضيقة وصراعات سياسية داخلية، ويقول كوهين إن "الإصلاح في هذا القطاع ليس ترفًا إداريًا، بل ضرورة أمن قومي".
وقد دعا الباحث إلى إنشاء غرفة عمليات موحدة تضم وزارة الطاقة وهيئة الأمن والدفاع وهيئة السايبر الإسرائيلية، لإدارة قطاع الكهرباء في الوقت الفعلي أثناء الأزمات، بالإضافة إلى بناء شبكة دفاع رقمية تراقب الهجمات السيبرانية وتستجيب لها فورًا، ويرى مراقبون أن الكيان أمام خيارين لا ثالث لهما: إما التحول السريع نحو نموذج طاقة متنوع ولامركزي، أو مواجهة كارثة داخلية قد تبدأ بانقطاع مؤقت للكهرباء وتنتهي بانهيار شامل في منظومته الحيوية.
ختام القول
في ظل التصاعد الإقليمي، واشتداد المواجهات في الجنوب والشمال، تبدو أزمة الطاقة في كيان الاحتلال أكثر من مجرد مشكلة تقنية أو اقتصادية؛ إنها تهديد استراتيجي شامل يطال الأمن والاقتصاد والمجتمع في آنٍ واحد.
فمن دون رؤية بعيدة المدى، ومن دون استثمار حقيقي في البنى التحتية والتخزين واللامركزية، قد يجد الكيان نفسه في الظلام — ليس مجازًا هذه المرة، بل حرفيًا — حين تتوقف المنصات، وتغرق الشبكات، ويكتشف مجتمع بأكمله أنه عاش لعقود فوق قنبلة كهربائية موقوتة.
