الوقت- في خضم العقوبات الغربية والحصار الأمريكي، تقف إيران شامخةً على صخرة الصمود، تُعلن للعالم بأسره أن محاولات الغرب لتطويقها وعزلها ليست سوى أوهامٍ تتبدد أمام إرادةٍ لا تُكسر، وعزيمةٍ لا تُقهر. ومن قلب العاصمة طهران، وفي اجتماع وزراء منظمة التعاون الاقتصادي “إيكو”، ترسل إيران رسالةً مدويةً، أن العزلة التي يروج لها خصومها ليست إلا سراباً في صحراء السياسة الدولية.
هذا الحدث البارز، الذي يُعقد بعد خمسة عشر عاماً من الغياب، يأتي في سياق سياسةٍ رشيدةٍ تتبناها الجمهورية الإسلامية، تجعل من أولوية التعاون مع دول الجوار ركناً ركيناً في استراتيجيتها، ويكتسب هذا الاجتماع أهميةً مضاعفةً، إذ يُعقد في لحظةٍ تاريخيةٍ تتصاعد فيها الضغوط الغربية، لتُثبت إيران أن العقوبات الدولية لم تُحقق مبتغاها، ولم تُفلح في تحقيق حلم الغرب بعزلها أو تهميش دورها في المنطقة والعالم.
إيران.. بوابة الجغرافيا ومفتاح العلاقات الدولية
إن إيران، بموقعها الجغرافي الفريد، تُعد قلباً نابضاً بين الشرق والغرب، فهي تجاور خمسة عشر دولة، وتفتح ذراعيها على البحار والمحيطات شمالاً وجنوباً، ما يمنحها موقعاً استراتيجياً لا يُضاهى، يجعلها نقطة التقاءٍ ومحوراً أساسياً في معادلات التعاون الدولي، هذا الموقع المميز، الذي يتقاطع مع إرادةٍ سياسيةٍ صلبة، يتيح لإيران إمكاناتٍ استثنائية لتعزيز علاقاتها الثنائية والدولية، وهو ما دفعها لتكون على مدى العقود الماضية مضيفاً رئيسياً لاجتماعات قادة ومنظمة “إيكو”، مواصلةً بذلك دورها المتنامي في صياغة المعادلات الإقليمية والدولية.
إمكانات “إيكو”.. نافذةٌ نحو التعاون المتجدد
إن منظمة التعاون الاقتصادي “إيكو” تُعد إحدى الركائز التي تسعى إيران لتوظيفها في تعزيز علاقاتها الإقليمية، إذ تتيح هذه المنظمة للدول الأعضاء فرصةً ثمينةً لتطوير التعاون الاقتصادي والتجاري، ويرى الخبراء أن رغم عدم تفعيل برنامج إلغاء التعريفات الجمركية وإرساء التجارة الحرة بين دول المنظمة بشكلٍ كامل حتى الآن، إلا أن وضع أهدافٍ واضحةٍ في هذا الاتجاه قادرٌ على تحقيق نتائج واعدة تفتح آفاقاً جديدةً للتعاون.
وفي هذا السياق، تبرز قضايا ذات أهميةٍ بالغة، من بينها مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، والتصدي لتدفقات اللاجئين، ومحاربة الاتجار بالمخدرات، وهي ملفاتٌ يمكن لإيران، بالتعاون مع شركائها في “إيكو”، أن تحقق فيها تقدماً ملموساً. وقد أظهرت التقارير الصادرة عن وزارة الداخلية الإيرانية نجاح الجمهورية الإسلامية في مواجهة آفة المخدرات، حيث قدمت آلاف الشهداء والجرحى في هذه المعركة، ما يُبرز التزامها الراسخ بحماية المنطقة من هذه الكارثة.
وفي السياق ذاته، أشار علي زينيوند، المتحدث باسم وزارة الداخلية الإيرانية، إلى الأعباء الثقيلة التي تتحملها إيران في مواجهة أزمة اللاجئين، قائلاً: “إن إيران تقف وحدها في مواجهة موجات اللاجئين الأجانب، وقد استضافت أعداداً كبيرةً منهم، ما حال دون تدفقهم نحو أوروبا، إلا أن الرد الأوروبي كان فرض العقوبات علينا بدل تقديم الدعم”.
الإمكانات الاقتصادية.. “إيكو” بوابةٌ نحو العالمية
إن منظمة التعاون الاقتصادي “إيكو”، التي تجمع بين جنباتها أكثر من نصف مليار نسمة، وتمتلك ثرواتٍ هائلةً من الطاقة والمعادن، تُعد مؤهلةً لتكون أحد الأقطاب الاقتصادية الكبرى في العالم، إلا أن الإحصاءات تشير إلى أن نصيبها من التجارة العالمية لا يزال متواضعاً، إذ لا يتجاوز 5%، بينما تبلغ نسبة التجارة البينية بين دول المنظمة نحو 8% فقط، وهي نسبةٌ أقل بكثيرٍ مقارنةً بمنظماتٍ أخرى كالاتحاد الأوروبي ومنظمة آسيان.
وحسب البيانات الرسمية للفترة ما بين عامي 2023 و2024، بلغ حجم التجارة الإجمالية بين دول “إيكو” ما يقارب تريليوناً وستة عشر مليار دولار، أي ما يُعادل 4 إلى 5% من حجم التجارة العالمية، بينما بلغت التجارة البينية بين دول المنظمة نحو 110 مليارات دولار، أي ما يعادل 8 إلى 9% من إجمالي التجارة بين أعضائها.
وقد أكد أسد مجيد خان، الأمين العام لمنظمة “إيكو”، على ضرورة إعادة صياغة استراتيجيات المنظمة، ووضع أهدافٍ بعيدة المدى تمتد حتى عام 2035، مع التركيز على تسهيل التجارة، وتقليص الحواجز الجمركية، واستثمار إمكانات التكنولوجيا الحديثة، وحتى التفكير في تصميم عملةٍ موحدةٍ لتعزيز التعاون الاقتصادي بين الدول الأعضاء.
كما ثمّن مبادرة إيران في إعادة إحياء الاجتماعات الوزارية بعد سنواتٍ من التوقف، مشيراً إلى أن مستقبل المنظمة يعتمد على تعاون الأعضاء في مواجهة تحدياتٍ كبرى، مثل التغير المناخي، وأزمة الطاقة، وتفاوت الهياكل الاقتصادية.
رسالة طهران إلى العالم: إيران عصيّةٌ على العزلة
إن أغلب دول منظمة “إيكو” تُعد محصورةً في اليابسة، ما يجعل إيران، إلى جانب تركيا وباكستان، صاحبة الدور الحيوي في ربط هذه الدول بالعالم عبر المياه المفتوحة، فضلاً عن كونها جسراً يربط بين تركيا وباكستان.
وفي ظل الظروف الراهنة، حيث يشتد الخناق الاقتصادي والسياسي المفروض على إيران، يأتي حضور وزراء الدول الأعضاء في “إيكو” في قلب العاصمة الإيرانية، ليحمل دلالاتٍ سياسيةً وأمنيةً واضحة، مفادها بأن إيران ليست قابلةً للعزلة، وأنها، رغم كل محاولات الغرب، تبقى رقماً صعباً في المعادلات الدولية.
إن هذا الاجتماع، الذي يُعقد في وقتٍ تتكاثر فيه الضغوط الغربية والأمريكية، يُشكل موقفاً جامعاً يُثبت أن العقوبات ليست سوى أدواتٍ عاجزة عن تحقيق الغايات، وأن إيران، بجغرافيتها الفريدة ومواردها الوافرة وإرادتها الصلبة، ستبقى صامدةً في وجه كل المحاولات الرامية إلى تهميشها أو إخضاعها.
ورسالة “إيكو”، التي انطلقت من طهران، تُعلن للعالم أن إيران، برغم العواصف الهوجاء، تظل قادرةً على مواجهة التحديات، وإثبات أن التعاون الإقليمي هو السبيل الأمثل لتعزيز السلام والاستقرار والتنمية، وأنها ستظل رقماً محورياً في معادلات السياسة والاقتصاد العالمية.
