الوقت – لقد عمد الاحتلال الصهيوني، في الأعوام الأخيرة، إلى تحويل قطاع غزة إلى أطلالٍ وركامٍ تحت وطأة ضرباته العمياء، ولم يكتفِ بما صنع هناك، بل أشعل نيران عدوانه في زوايا أخرى من الأرض الفلسطينية، لينقل وقود حربه إلى الضفة الغربية، حيث المواجهة تتخذ شكلاً آخر من أشكال القهر والغطرسة.
ومع حلول موسم قطاف الزيتون في الضفة الغربية، تستعر الهجمات من قبل المستوطنين، الذين يشنون غاراتٍ منظمةً على أراضي الفلسطينيين، يسلبون فيها ثمار تعبهم، ويمنعون أصحاب الأرض من جني محصولهم الذي زرعته أياديهم، وسقته دموعهم، وقد شهدت الأيام الأخيرة موجةً غير مسبوقةٍ من عنفٍ ممنهجٍ مارسه المستوطنون في الضفة الغربية، ما أسفر عن استشهاد وإصابة العشرات من أبناء الشعب الفلسطيني، واقتلاع آلاف الأشجار التي كانت ترمز للأمل والصمود.
وتتداول وسائل الإعلام مقاطع مرئيةً توثّق وحشية المستوطنين، إذ يتعرض المزارعون الفلسطينيون للضرب المبرح ويُمنعون من دخول أراضيهم، وفي أحد هذه المشاهد المؤلمة، يظهر مستوطنٌ برفقة جنود الاحتلال وهو يهاجم مزارعاً أثناء قطافه الزيتون في بلدة نحالين الواقعة غرب بيت لحم، ويعتدي عليه بالضرب أمام أنظار زوجته، في مشهدٍ لا يصفه إلا من شهد قسوة الطغاة في أبشع تجلياتها.
ولا تتوقف جرائم المستوطنين عند نهب ثمار الزيتون، بل تمتد إلى قطع الأشجار من جذورها، في محاولةٍ لإبادة هذه العلامات الحية التي تشهد على فلسطينيتها، بينما يواصل جيش الاحتلال حملاته المستهدفة لأشجار الزيتون، مستعيناً بالجرافات التي تقتلعها، والسموم التي تُغرقها، ومياه الصرف الصحي التي تُفسد تربتها، ورغم أن الاحتلال قد دمّر أكثر من مليوني شجرة زيتون على مدار سبعة وسبعين عاماً من الاستعمار، فإن هذه الشجرة، كشعبها، لا تزال شامخةً كأنها جبلٌ يأبى أن ينحني لرياح الغدر، ويظل ثابتاً في وجه الأعاصير.
وقد أعلنت منظمة اليونسكو أن عمر شجرة الزيتون في فلسطين يمتد إلى خمسة آلاف وخمسمئة عام، مما دفعها في عام 2019 إلى تخصيص السادس والعشرين من نوفمبر يوماً عالمياً للاحتفاء بهذه الشجرة المباركة، وعلى الرغم من كل محاولات الاستئصال والتدمير، فإن فلسطين ما زالت تحتضن ما يزيد على أحد عشر مليون شجرة زيتون، ومن بينها أقدم شجرة زيتون في البلاد، الواقعة في قرية الولجة بالقرب من بيت لحم، والتي يزيد عمرها على خمسة آلاف عام، ويبلغ ارتفاعها ثلاثة عشر متراً، وكأنها تصيح في وجه الطغاة: “أنا شاهدةٌ على وجود شعبٍ لا يُقهر”.
ويحتفل الفلسطينيون في موسم قطاف الزيتون بـ"عيد الزيتون"، حيث يتحول هذا الموسم إلى مهرجانٍ شعبيٍ يجسّد ارتباطهم الوثيق بأرضهم، مؤكدين أن شجرة الزيتون ليست مجرد نباتٍ يُغرس في الأرض، بل هي شاهدٌ حيٌ على وجودهم الممتد عبر الأزمان، وجذورهم الراسخة التي لا تتزعزع، بينما الاحتلال عابرٌ زائل، لا محالة.
ويؤمن الفلسطينيون أن شجرة الزيتون تحمل في أغصانها معنىً سامياً، فهي إرثٌ حيٌ يروي حكاية أجدادهم، ويربطهم بماضيهم العريق، رغم أن الاحتلال الصهيوني لا يدّخر جهداً في محاولاته لطمس هذا الإرث، وقطع صلتهم بأرضٍ هي هويةٌ وكرامةٌ لا تُساوم.
خطة محكمة لاجتثاث الزراعة الفلسطينية
منذ نكبة فلسطين عام 1948، تحول استهداف أشجار الزيتون إلى سياسةٍ ممنهجةٍ يتبعها الاحتلال الصهيوني بغية ضرب الاقتصاد الفلسطيني وتجفيف منابع رزقه. ففي كل عامٍ، يشنّ المستوطنون هجماتٍ على مزارع الزيتون، التي تعدّ مصدر عيشٍ لعشرات الآلاف من الفلسطينيين، ما يؤدي إلى تدمير الزراعة المحلية، ويعمّق جراح الفلسطينيين الاقتصادية.
ويقول وديع أبو عواد، أحد المزارعين في قرية ترمسعيا، التي تتعرض لهجمات المستوطنين بشكلٍ متكرر: “إن المستوطنين يهاجمون أراضينا تحت حماية قوات الاحتلال، وخاصةً في قرى ترمسعيا والمغير وأبو فلاح، حيث تتعرض هذه المناطق لمخططات استيطانيةٍ تهدف إلى السيطرة على الأرض وحرماننا من مصادر رزقنا، ومنعنا من حصاد محاصيلنا الزراعية. وفي هذا الموسم، نجد أن ثلاثين بالمئة من الأراضي باتت غير قابلة للوصول بسبب اعتداءاتهم المتكررة”.
ويؤكد عبد الله أبو رحمة، مدير تنظيم الفعاليات الشعبية المناهضة لجدار الفصل العنصري، أن المستوطنين يتحركون وفق خطةٍ محكمةٍ ومنظمةٍ، إذ يتعاونون فيما بينهم لتنفيذ هجماتٍ تستهدف المزارعين، وتمنعهم من الوصول إلى أراضيهم، مستغلين غياب أي عقوباتٍ أو ملاحقاتٍ قانونية تردعهم عن هذه الجرائم.
وقد أثارت هذه الجرائم غضب المجتمع الدولي، حيث أعلن مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة أن الضفة الغربية شهدت خلال أسبوعٍ واحدٍ فقط واحداً وسبعين اعتداءً نفّذه المستوطنون ضد الفلسطينيين وممتلكاتهم، نصفها وقع بالتزامن مع موسم قطاف الزيتون، ما أثّر على سكان سبعٍ وعشرين قرية في مناطق متفرقة من الضفة.
وأشار التقرير إلى أن الهجمات أسفرت عن اقتلاع أو تدمير أكثر من 1430 شجرة ونبتة، معظمها من أشجار الزيتون، فضلاً عن إحراق أربعين مركبة وإلحاق الضرر بها، ووفقاً للتقارير الدولية، فقد دمر الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1967 أكثر من مليون شجرة زيتون فلسطينية، مستخدماً أساليب شتى من قطع الأشجار وحرق الحقول إلى فرض قيودٍ مشددةٍ على وصول المزارعين إلى أراضيهم، ويهدف هذا النهج إلى توسيع رقعة المستوطنات وإجبار الفلسطينيين على ترك أراضيهم قسراً.
وقد بلغت وحشية اعتداءات المستوطنين مستوىً لم تستطع معه حتى الصحافة العبرية أن تلوذ بالصمت، ففي تقريرٍ نشرته صحيفة “هآرتس”، أكدت أن اعتداءات المستوطنين على مزارع الزيتون تتم وفق نمطٍ واحد، حيث تنحدر مجموعات مسلحة ومقنعة من التلال ليلاً لتهاجم المزارعين، وترافقها قوات الاحتلال التي إما تحمي المعتدين أو تمنع الفلسطينيين من الدفاع عن أراضيهم، بل تلجأ أحياناً إلى إصدار أوامر بإغلاق المناطق وتحويلها إلى مناطق عسكرية مغلقة، لمنع دخول المتطوعين الذين يسعون لدعم المزارعين ومساعدتهم.
الزيتون: شريان حياة الفلسطينيين
تُعدّ شجرة الزيتون الركيزة الأساسية للزراعة الفلسطينية، إذ تشغل خمسة وأربعين بالمئة من مساحة الأراضي الزراعية، لكنها مع ذلك لا تسلم من بطش الاحتلال، ففي منطقة “ج” التي تشمل ستين بالمئة من أراضي الضفة الغربية، يفرض الاحتلال قيوداً صارمةً على المزارعين الفلسطينيين، ما يحرمهم من حقوقهم في جني ثمار الزيتون من أراضيهم.
ويمثّل الزيتون ما يقارب سبعين بالمئة من الإنتاج الزراعي الفلسطيني، ويشكّل أربعة عشر بالمئة من الاقتصاد الوطني، إذ تعتمد العائلات الفلسطينية على هذه الشجرة المباركة كمصدرٍ رئيسٍ للدخل، حيث تولت رعايتها جيلاً بعد جيل، لتصبح عنواناً للارتباط بالأرض وتراثاً يُخلد تاريخهم العريق.
وفي السنوات المثمرة، يولد قطاع الزيتون دخلاً يتراوح بين مئة وستين ومئة وواحد وتسعين مليون دولار سنوياً، ما يشكّل ما بين عشرين إلى خمسة وعشرين بالمئة من دخل القطاع الزراعي في فلسطين، ولو أُتيح للفلسطينيين الوصول إلى أراضيهم والانتفاع بمحاصيل الزيتون، لكانت هذه الموارد كفيلةً بتخفيف جزءٍ كبيرٍ من الأزمات الاقتصادية التي تعصف بهم.
تهجيرٌ ممنهجٌ للفلسطينيين
يسعى الاحتلال الصهيوني، عبر تدمير وسرقة أشجار الزيتون في الضفة الغربية، إلى القضاء على أحد أهم مصادر دخل الفلسطينيين، ولم يكتفِ بذلك، بل عمد إلى فرض قيودٍ صارمةٍ على حركة النقل والتصدير، ولا سيما تصدير الزيتون، ما شلّ تجارة الفلسطينيين وألحق ضرراً بالغاً باقتصادهم المحلي.
ويعمل المحتل على إغلاق الطرق، ومنع المزارعين من الوصول إلى الأسواق، وحرمانهم من تصدير منتجاتهم إلى الخارج، بهدف إضعاف مصادر رزقهم، وتجفيف مواردهم الاقتصادية، ودفعهم نحو النزوح القسري عن أراضيهم، وهو الهدف الذي يأتي في صلب مخططات حكومة بنيامين نتنياهو، التي تسعى إلى تفريغ الضفة الغربية تدريجياً من سكانها الأصليين، لتوسيع المستوطنات وغرس جذور الاحتلال في الأرض المحتلة.
وفي هذا السياق، يلعب كلٌ من إيتمار بن غفير، وزير الأمن الداخلي، وبتسلئيل سموتريتش، وزير المالية، دوراً محورياً في توجيه سياسات الاحتلال الممنهجة، التي تتناغم مع اعتداءات المستوطنين على مزارع الزيتون. وبالتزامن مع هذه الهجمات، يواصل الكنيست الإسرائيلي تمرير قوانينٍ تهدف إلى ضمّ الضفة الغربية بشكلٍ رسميٍ، لإضفاء الشرعية على الاحتلال، وتحويله إلى واقعٍ قانونيٍ يعزز من مخططات تفريغ الأرض من سكانها الأصليين.
وهكذا، فإن الهجمات الوحشية التي يشنها المستوطنون وجيش الاحتلال على مزارع الزيتون، لم تعد مجرد اعتداءاتٍ عشوائيةٍ داخل الأراضي المحتلة، بل أصبحت جزءاً لا يتجزأ من سياسة الفصل العنصري والتطهير العرقي التي ينتهجها هذا الكيان بحق الفلسطينيين.
وفي نهاية المطاف، تبقى شجرة الزيتون بالنسبة للفلسطينيين أكثر من مجرد مصدرٍ للرزق أو غذاءٍ للحياة، إنها رمزٌ للصمود الذي لا يعرف الخضوع، وعلامةٌ على ارتباطهم الوثيق بأرضٍ لا يمكن اجتثاثهم منها مهما فعل المحتل، ومن منظورهم، فإن كل شجرة زيتون تُقتلع من جذورها أو تُحرق بنيران العداوة، هي جزءٌ من تاريخهم يُسلب، ولبنةٌ من هويتهم تُهدم، ومع ذلك، فإن هذه الشجرة المباركة، كشعبها، ترفض الانكسار، وتظل شامخةً في وجه الاحتلال.
