الوقت- بعد أسبوع دامٍ على الحدود المضطربة بين باكستان وأفغانستان، ارتفعت راية السلام أخيراً من على بُعد مئات الكيلومترات، من قلب مياه الخليج الفارسي.
في فجر يوم الأحد، أعلنت وزارة الخارجية القطرية أن باكستان وأفغانستان توصلتا إلى اتفاق لوقف فوري جديد لإطلاق النار خلال مباحثات في الدوحة، بعد أكثر من أسبوع من الاشتباكات الدامية التي استمرت رغم الهدنة السابقة.
وذكرت الوزارة أن البلدين اتفقا، في محادثات بوساطة قطرية وتركية، على وقف القتال والسعي نحو “سلام واستقرار دائمين”.
صدر هذا البيان بعد اتهام طالبان أفغانستان لباكستان بشن المزيد من الغارات الجوية على أراضيها، وتُعد هذه الاشتباكات أشدّ توتراً بين البلدين منذ عودة طالبان إلى سدة الحكم في كابول عام 2021.
تقول إسلام آباد إنها قضت على أكثر من 200 من مقاتلي طالبان، بينما تدعي جماعة طالبان أفغانستان مقتل 58 جندياً باكستانياً، وتكشف حصيلة القتلى من الجانبين مدى هشاشة مسار المصالحة الذي بدأ في أوائل عام 2025 بوساطة صينية.
وافق الطرفان الأربعاء الماضي على هدنة استمرت 48 ساعة، لكنها لم تفلح في وقف العنف والاشتباكات الحدودية المتفرقة.
بدأت المفاوضات يوم السبت، وأوفد البلدان وفوديهما برئاسة وزراء الدفاع والأمن إلى الدوحة، فمثّل أفغانستان “محمد يعقوب مجاهد” وزير الدفاع وعبد الحق وثيق رئيس جهاز الاستخبارات والأمن، فيما ترأس الوفد الباكستاني “خواجة آصف” وزير الدفاع وعطا الله ترار وزير الإعلام.
قبيل انعقاد لقاء الدوحة، أعلنت وزارة الخارجية الباكستانية: “ستركز هذه المباحثات على الإجراءات العاجلة لإنهاء الإرهاب العابر للحدود ضد باكستان والمنطلق من أفغانستان، وإعادة السلام والاستقرار على امتداد الحدود بين البلدين”.
اندلعت الاشتباكات الحدودية بين الجارتين على طول الحدود المتنازع عليها والممتدة لمسافة 2600 كيلومتر في العاشر من أكتوبر، حينما اتهمت أفغانستان أولاً باكستان بشن غارات جوية على كابول، ثم شنت هجمات انتقامية.
وصرح الجنرال عاصم منير، قائد الجيش الباكستاني، يوم السبت خلال حفل تخريج طلاب كلية الضباط قائلاً: “يتعين على النظام الأفغاني كبح جماح القوات الوكيلة التي تتخذ من أفغانستان ملاذاً، وتستخدم أراضيها لشن هجمات شنيعة داخل باكستان”.
تواجه باكستان، التي تكافح ضد تزايد ملحوظ في الهجمات وخاصةً في إقليم خيبر بختونخوا شمال غرب البلاد، كابول منذ فترة بإيواء جماعة طالبان باكستان (TTP)، لكن كابول تنفي هذه المزاعم وتتهم الجيش الباكستاني بنشر معلومات مضللة عن أفغانستان، وإيواء مقاتلين مرتبطين بـ"داعش" يقوضون استقرار البلاد وسيادتها.
وفقاً لبيان نشره ذبيح الله مجاهد، المتحدث باسم طالبان، يوم الأحد، تعهدت كابول كجزء من اتفاق وقف إطلاق النار “بعدم دعم الجماعات التي تشن عمليات ضد الحكومة الباكستانية”، كما اتفق الطرفان على “الامتناع عن استهداف قوات الأمن والمدنيين والبنى التحتية الحيوية لبعضهما”.
في المقابل، رحب محمد إسحاق دار، نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية الباكستاني، بالاتفاق واصفاً إياه بأنه “خطوة أولى في الاتجاه الصحيح”.
وكتب في منشور على منصة إکس: “أعرب عن عميق تقديري للدور البناء الذي لعبته الدولتان الشقيقتان قطر وتركيا”.
وأضاف: “نتطلع بشوق إلى إنشاء آلية رقابية محددة وقابلة للتحقق، في الاجتماع المقبل الذي تستضيفه تركيا، للتصدي لتهديد الإرهاب المنبعث من أراضي أفغانستان تجاه باكستان”، “من المهم بذل كل الجهود لمنع المزيد من الخسائر”.
العامل الكامن وراء الاشتباكات الحدودية
تمثل اشتباكات الأسابيع الأخيرة أكثر التوترات دمويةً منذ انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان عام 2021، وقد تكون مؤشراً على جولة جديدة من عدم الاستقرار في علاقات البلدين المتجاورين.
كانت باكستان في الماضي من أبرز داعمي طالبان بعد الإطاحة بها عام 2001 وخلال تمردها ضد الحكومة الأفغانية المدعومة أمريكياً، غير أن العلاقات بين كابول وإسلام آباد، خلافاً للتفاؤل الأولي في عهد الإمارة الإسلامية، سارت في مسار متقلب وأحياناً متوتر، ويُعزى أحد أسبابه الرئيسية إلى أنشطة الجماعات الإرهابية العاملة في الأراضي الباكستانية وادعاءات إسلام آباد بصلتها بطالبان.
من بين مختلف الجماعات المسلحة التي تفيد التقارير بأنها تعمل من أفغانستان، يعتبر المسؤولون الباكستانيون حركة طالبان باكستان (TTP) التهديد الأكبر، ظهرت طالبان باكستان عام 2007 في خضم احتلال أمريكا لأفغانستان بذريعة “مكافحة الإرهاب”، وتخوض كفاحاً مسلحاً ضد إسلام آباد منذ سنوات.
تسعى هذه الجماعة ذات الأيديولوجية التكفيرية الوهابية إلى تطبيق شريعة إسلامية صارمة، وتطالب بإطلاق سراح أعضائها السجناء وإلغاء دمج المناطق القبلية الباكستانية السابقة مع إقليم خيبر بختونخوا.
تُعد طالبان باكستان مستقلةً عن طالبان أفغانستان، لكن الجماعتين متقاربتان أيديولوجياً، تشير الإحصاءات إلى ازدياد هجمات حركة طالبان باكستان منذ تولي طالبان السلطة في أفغانستان، وجاء في تقرير حديث لمعهد “بيانات مواقع وأحداث النزاعات المسلحة” (ACLED) ومقره الولايات المتحدة: “تظهر بياناتنا أن تحريك طالبان باكستان شاركت في ما لا يقل عن 600 هجوم ضد قوات الأمن، أو اشتباك معها في العام الماضي وحده، وقد تجاوز نشاط هذه الجماعة في عام 2025 حتى الآن نشاطها في عام 2024 بأكمله”.
كما أعلن مركز البحوث والدراسات الأمنية (CRSS)، وهو مركز فكري مقره إسلام آباد، أن عدد القتلى من أفراد الأمن الباكستاني في الأرباع الثلاثة الأولى من العام الجاري تجاوز 2400 شخص، ما يضع البلاد على مسار أكثر الأعوام دمويةً في العقد الماضي.
ترفض طالبان ادعاء باكستان بوجود صلة أو دعم لجماعة تحريك طالبان، لكن إسلام آباد استهدفت بعض قادة هذه الجماعة البارزين في الأراضي الأفغانية خلال الأشهر الأخيرة، وقد ألقى هذا الأمر بظلاله على علاقات الطرفين لدرجة أن إسلام آباد، في موقف نادر، شككت مؤخراً في شرعية حكومة طالبان، ما يشير إلى تفكك حلقات التحالف السابقة.
في أواخر الأسبوع الماضي، شككت وزارة الخارجية الباكستانية للمرة الأولى في شرعية حكومة طالبان، رغم أن إسلام آباد كانت الداعم الرئيسي لهذه الحركة لربع قرن.
طالبت باكستان باتخاذ “إجراءات محددة وقابلة للتحقق ضد هذه العناصر الإرهابية من قبل نظام طالبان”، وأكدت على تشكيل حكومة أكثر شمولاً، وجاء في بيان وزارة الخارجية: “نأمل أيضاً أن يأتي يوم يتحرر فيه الشعب الأفغاني ويُحكم من قبل حكومة تمثّله حقاً”.
إضافةً إلى باكستان، دعت القوى الإقليمية، بما فيها الصين وإيران وروسيا، طالبان مراراً إلى القضاء على تحريك طالبان باكستان وغيرها من الجماعات المسلحة التي يُزعم أنها تنشط في أفغانستان، وتكرر هذا المطلب في أوائل أكتوبر خلال اجتماع “محادثات موسكو” الذي حضره متقي، وزير خارجية حكومة طالبان.
آفاق السلام الغامضة
رغم إعراب كل من باكستان وطالبان عن رضاهما بالاتفاق المُبرم في الدوحة وترحيبهما بوقف الاشتباكات، يبدو أن استدامة السلام مرهونة بإجراءات طالبان لمعالجة المخاوف الأمنية الباكستانية.
يقول بعض المحللين الآن إن باكستان، بتوضيحها أن الهجمات المستقبلية على أراضيها قد تؤدي إلى انتقام داخل أفغانستان، تسعى إلى إرساء “معادلة جديدة” مع طالبان. ويرى الخبراء أن هذا النهج يشبه السلوك الذي اتبعته حكومة ناريندرا مودي الهندية ضد باكستان في أبريل.
بعد أن حمّلت الهند إسلام آباد مسؤولية مقتل 26 مدنياً في كشمير الخاضعة للسيطرة الهندية في أبريل، شنت غارات جوية انتقامية ضد باكستان في مايو، مما أدى إلى حرب استمرت عدة أيام.
وعليه، في حين لا يبدو أن طالبان تسيطر سيطرةً كاملةً على أعمال وقرارات جماعة تحريك طالبان، لا يزال شبح الإجراءات الانتقامية من جانب الجيش الباكستاني ضد الأراضي الأفغانية قائماً في حال تكرار هجمات تحريك طالبان.
قضية مهمة أخرى تتعلق بمؤشرات على رغبة طالبان في توسيع علاقاتها مع الهند، مما أثار غضب المسؤولين الباكستانيين، وقع الهجوم الباكستاني الأخير على كابول في الوقت الذي كان فيه أمير خان متقي، القائم بأعمال وزير خارجية طالبان، يزور نيودلهي حيث استقبل الهنود وفد طالبان بحفاوة، ويرى قادة باكستان أن تقارب كابول من نيودلهي يعني زيادة النفوذ الهندي في أفغانستان، واحتمال تعاونهما أمنياً مستقبلاً ضد إسلام آباد.
مع ذلك، يقول المحللون إن هذا التحول في المشهد بين باكستان وأفغانستان يشير إلى أنه رغم انحسار المواجهات في نهاية الأسبوع، فإن التوترات ستشتد على الأرجح في الأسابيع المقبلة، وما زال الوصول إلى اتفاق مستدام أمراً بعيد المنال.