الوقت – كشف دونالد ترامب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية مؤخراً النقاب عن خطته الجديدة لوقف الحرب في غزة، بيد أن هذه الخطة المكونة من عشرين بنداً، والتي قُدمت تحت شعار “إنهاء الحرب”، ليست في حقيقتها سوى إعادة صياغة للمحاور الرئيسية لـ"صفقة القرن" في غلاف جديد.
يتمحور جوهر هذه الخطة حول الإقصاء التام لدور حماس والسلطة الفلسطينية، وإدارة غزة دولياً دون تحديد مصيرها النهائي، مع انحياز صارخ لمصلحة الكيان الصهيوني، ومع ذلك، وكما كان متوقعاً، لم يصدر عن الزعماء العرب أي صوت احتجاج أو معارضة، بل على العكس، أصدرت الدول العربية بيانات استسلامية مرحّبة بخطة ترامب، واصفةً إياها بأنها خطوة نحو السلام، في تناقضٍ تام مع مواقفها السابقة وقرارات جامعة الدول العربية.
الأبعاد الخطيرة لخطة ترامب
خلافاً لادعاءات الدول العربية، يمكن للمتأمل في بنود الخطة العشرين أن يدرك بجلاء أنها منحازة كلياً لمصلحة الكيان الصهيوني وضد مصالح الفلسطينيين.
انتهاك السيادة وحق تقرير المصير: تتجاهل الخطة، باشتراطها إقصاء جميع المؤسسات الممثلة للفلسطينيين (سواء المقاومة أو الرسمية)، أي حق للفلسطينيين في السيادة على أرضهم، وتستبدله بنموذج “الوصاية الدولية”، وهذا ليس حلاً، بل إهانة بنيوية وإنكاراً للهوية السياسية للشعب الفلسطيني.
تعزيز أمن "إسرائيل" وإضعاف فلسطين كلياً: إعلان نزع سلاح حماس وغزة بالكامل دون تقديم أي ضمانات للانسحاب الكامل والفوري للقوات العسكرية المحتلة، سيتيح للكيان الصهيوني - كما في التطورات اللبنانية - مواصلة هجماته على غزة بذريعة نزع السلاح، تاركاً الفلسطينيين عزلاً أمام أي عدوان مستقبلي بسبب غياب توازن القوى.
تمرير سيناريو التهجير في الظل: لا تتضمن الخطة أي إشارة لدور وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) في مستقبل قطاع غزة، أعلنت الولايات المتحدة خلال فترة الرئاسة الأولى لترامب أن الأونروا غير قانونية، لتمهيد الطريق لإنهاء شرط عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى الأراضي المحتلة في الضفة الغربية وفقاً لحل الدولتين.
والآن، فإن عدم ذكر الأونروا - تماشياً مع رغبات الصهاينة - يعني فعلياً إنهاء المساعدات والدعم الدولي للفلسطينيين، تلك الدولة التي كان من المقرر إنشاؤها بعد خمس سنوات من اتفاق أوسلو عام 1994، والتي تعهد نتنياهو علناً بعدم السماح بإقامتها أبداً.
تبادل غير متكافئ وتعليق الحقوق: يعكس شرط إطلاق سراح الأسرى خلال 72 ساعة، مقابل تأجيل جميع المطالب الفلسطينية الأساسية (مثل إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة)، لعبة رابح-خاسر مخطط لها مسبقاً، تسلب هذه الخطة ورقة الفلسطينيين الرابحة (الأسرى الإسرائيليين)، دون تقديم ضمانات عملية وفورية لإنهاء الاحتلال، إنها تقدم للفلسطينيين مجرد وعود مؤجلة لا يمكن ضمان تنفيذها، وخاصةً من الولايات المتحدة التي هي طرف في الحرب ولا يمكنها العمل كوسيط، وكما قال مهند مصطفى، الخبير في الشؤون الإسرائيلية، في حديث للجزيرة، فإن هذه الخطة تحقق الأهداف الحربية الأساسية لـ "إسرائيل"، لكنها تتجاهل الأهداف الأيديولوجية المتمثلة في التهجير والاحتلال، وربما ضمّ غزة إلى "إسرائيل".
ردود فعل الدول العربية: من الخذلان إلى الخيانة
الجدير بالذكر أن خطة ترامب بأبعادها المدمرة هذه، قد حظيت بالثناء في بيانات الدول العربية.
فقد رحّبت ثماني دول عربية وإسلامية، في بيان مشترك، بـ"الجهود المخلصة" لدونالد ترامب، رئيس الولايات المتحدة، لإنهاء الحرب في قطاع غزة الفلسطيني.
صدر هذا البيان المشترك عن وزراء خارجية تركيا والأردن والإمارات العربية المتحدة وإندونيسيا وباكستان والمملكة العربية السعودية وقطر ومصر.
يرحّب البيان بقيادة ترامب و"جهوده الصادقة" لإنهاء الحرب في غزة، ويعرب عن الثقة في إرادته لإيجاد مسار نحو السلام، وهکذا، تعكس ردود الفعل الإيجابية لهذه الدول، وحتى السلطة الفلسطينية، تراجعاً واضحاً.
كانت هذه الدول قد عارضت صراحةً، في اجتماعات القاهرة والرياض، النسخة الأولية من هذه الخطة التي تضمنت “التهجير القسري للفلسطينيين”، و"إعادة الإعمار بواسطة شركات أمريكية"، إن الترحيب بالخطة الجديدة، التي تماثلها في الجوهر، يشير إلى تحول واضح في الموقف أو خذلان استراتيجي.
کما يعكس هذا الرد أيضاً غياب استقلال القرار لدى هذه الدول، فعلى الرغم من امتلاكها أدوات اقتصادية وسياسية ودبلوماسية قوية، فضّلت هذه الدول اتباع سياسة الاستسلام بدلاً من اتخاذ موقف موحد وحازم في مواجهة الضغط الأمريكي والإسرائيلي، وهذا يكشف عن حقيقة مرة: أولوية مصالح الحكام العرب على الإرادة العامة لشعوبهم.
يبدو من إصدار مثل هذه البيانات أن هذه الدول تعتبر القضية الفلسطينية ورقة مساومة للحفاظ على علاقاتها مع واشنطن، وتطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني (في إطار الإستراتيجية الأمريكية للمنطقة)، وحتى لاكتساب امتيازات أمنية وعسكرية، وهذا النهج يضحّي بقضية القدس والحقوق التاريخية لفلسطين على مذبح المعادلات قصيرة المدى.
خطة ترامب العقيمة
إن خطة ترامب، بمحتواها الاستعماري وأحادي الجانب، محكوم عليها بالفشل أمام إرادة المقاومة الفلسطينية، تماماً كما انضمت “صفقة القرن” إلى متحف التاريخ، لكن رد فعل الدول العربية في هذه المرحلة يمثّل “وصمة عار تاريخية” أخرى.
سيكون لهذا الخذلان بالتأكيد تداعيات مهمة، بما في ذلك تراجع دور جامعة الدول العربية في التطورات الفلسطينية، وتعزيز خطاب محور المقاومة القائم على عدم الثقة بالولايات المتحدة والاعتماد على الذات.
يبدو أن الحكام العرب، رغم كل دروس التاريخ، قد فضّلوا مرةً أخرى “سُبات الغفلة” على “صحوة العزة”، ونتيجة هذا المسار لن تكون مجرد وصمة عار أخرى، بل تعميقاً للفجوة بين الشعوب والحكومات العربية، وزيادة السخط العام في المنطقة.