الوقت- أثار إعلان الرئيس الكولومبي غوستافو بترو عن دعوته لتشكيل قوائم متطوعين للذهاب إلى غزة من أجل القتال ضد "إسرائيل" ردود فعل واسعة على المستويين الدولي والإقليمي، حيث مثّل هذا الموقف تطوراً لافتاً في الخطاب السياسي العالمي تجاه القضية الفلسطينية، في الوقت الذي اعتادت فيه الشعوب العربية والإسلامية سماع بيانات الشجب والإدانة من حكوماتها دون ترجمة عملية على الأرض، خرج بترو ليكسر هذا الجمود بخطوة غير مسبوقة، أعلن فيها استعداده لفتح باب التسجيل للمتطوعين من كولومبيا وسائر أنحاء العالم للانضمام إلى ما وصفه بـ«أقوى جيش في العالم» إذا توحد من أجل إنقاذ الفلسطينيين من العدوان المتواصل، هذه الدعوة، التي أطلقها الرئيس الكولومبي من قلب نيويورك أثناء اجتماعات الأمم المتحدة، جاءت كصفعة قوية لسياسة اللامبالاة التي ينتهجها المجتمع الدولي تجاه المجازر المستمرة في غزة منذ ما يقرب من عام، حيث لم تفلح الضغوط الدبلوماسية ولا التحركات الأممية في وقف نزيف الدم الفلسطيني، بينما صمتت الأنظمة العربية التي يفترض أنها معنية مباشرة بالقضية الفلسطينية عن أي خطوات عملية لنصرة الشعب المحاصر.
خطوة بترو لم تكن مجرد تصريح عابر للاستهلاك الإعلامي، بل جاءت ضمن رؤية واضحة تتقاطع مع مسيرته السياسية المعروفة بمواقفها المناهضة للإمبريالية وللازدواجية الغربية في التعامل مع قضايا العدالة وحقوق الإنسان، لقد أراد أن يبعث برسالة مزدوجة: الأولى إلى الشعب الفلسطيني مفادها بأن معاناته ليست منسية، وأن هناك من يقف معه حتى من خارج المنطقة، والثانية إلى القوى الكبرى التي تحتكر أدوات الضغط الدولي لتؤكد أن العالم لم يعد حكراً عليها، وأن إرادة الشعوب يمكن أن تفرض معادلات جديدة، لذلك لم يكن غريباً أن تستشيط الولايات المتحدة غضباً وتعلن إلغاء تأشيرة دخول بترو إليها، واصفة مواقفه بأنها «متهورة»، في محاولة واضحة لثني الرئيس الكولومبي عن مساره المستقل، لكن الرد جاء أكثر قوة من جانب بترو حين أكد أنه لا يكترث لهذه الإجراءات، وأنه مستعد لتحمل تبعات مواقفه ما دام يقف في صف العدالة والحرية.
اللافت أن هذه المبادرة الكولومبية جاءت في وقت تتفاقم فيه مأساة غزة إلى حدود غير مسبوقة، التقارير الحقوقية والإنسانية تشير إلى عشرات آلاف الشهداء والجرحى معظمهم من الأطفال والنساء، فيما البنية التحتية مدمرة بالكامل، والمستشفيات خرجت عن الخدمة، والأمم المتحدة نفسها تصف الوضع بأنه «كارثة إنسانية غير مسبوقة»، أمام هذه الحقائق المروعة، يبرز سؤال مشروع: لماذا يظل العالم العربي، الذي يمتلك الجيوش والإمكانيات والقدرة، عاجزاً حتى عن اتخاذ موقف يقترب من خطوة بترو الرمزية؟ لماذا تصر الحكومات العربية على الاكتفاء بالدعوات الباهتة لوقف إطلاق النار بينما الشعب الفلسطيني يواجه آلة قتل منظمة؟ إن صمت هذه الأنظمة لا يمكن تفسيره إلا بغياب الإرادة السياسية وخضوعها لحسابات إقليمية ودولية ضيقة، ما يجعلها متخاذلة أمام التاريخ وأمام شعوبها.
ما قام به الرئيس الكولومبي يستحق أن يُسجل في الذاكرة كعمل شجاع يذكرنا بمواقف زعماء عالميين قلائل وقفوا إلى جانب المظلومين رغم كل الضغوط، لقد أظهر أن التضامن مع فلسطين ليس حكراً على العرب أو المسلمين، بل هو قضية إنسانية عالمية تتجاوز الحدود الجغرافية والدينية، وقد يكون هذا الموقف دافعاً لحركات تضامن شعبية أوسع في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا، حيث تتنامى أصوات تدعو إلى فرض عزلة على "إسرائيل" عبر المقاطعة وقطع العلاقات العسكرية والاقتصادية معها، وفي الوقت الذي تلتزم فيه الأنظمة العربية الصمت، نجد أن رئيساً من أمريكا اللاتينية يتصدر المشهد ويعيد إلى الأذهان أن العدل لا يتجزأ وأن من واجب كل إنسان حر أن يقف في وجه الاحتلال.
من الناحية السياسية، قد يقول البعض إن دعوة بترو لحشد متطوعين تفتقر إلى الواقعية القانونية والعسكرية، وقد تُستخدم ضده داخلياً وخارجياً، لكن حتى لو لم تتحقق عملياً، فإن رمزيتها تكفي لإحراج الحكومات التي تخلت عن مسؤولياتها، إن مجرد إعلان رئيس دولة عن استعداده للمشاركة شخصياً في القتال من أجل فلسطين يضع كثيراً من القادة العرب أمام مرآة قاسية تظهر عجزهم وتواطؤهم، وما كان لهذه الدعوة أن تلقى هذا الصدى الكبير لولا الفراغ الهائل الذي تركه الموقف العربي الرسمي، إذ لو كان هناك تحرك جدي من الدول العربية لما وجد بترو ضرورة لإطلاق مبادرته.
إن المتابع المنصف يدرك أن هذه الخطوة تحمل في طياتها بعداً أخلاقياً عميقاً، فهي تنطلق من إدراك لحجم المأساة الإنسانية في غزة، ومن شعور بالمسؤولية الإنسانية قبل السياسية، وفي عالم يتسابق قادته على عقد صفقات السلاح وتبرير الحروب العدوانية، يصبح لموقف مثل موقف بترو قيمة استثنائية، لأنه يعيد الاعتبار لفكرة أن السياسة يمكن أن تكون في خدمة المظلومين لا في خدمة الأقوياء فقط، صحيح أن القوى الكبرى ستسعى لمحاصرته، وربما تدفع ضده تحالفات داخلية لإضعافه، لكن التاريخ لا يُكتب بقرارات واشنطن وحدها، بل بمواقف من هذا النوع تقف في وجه التيار وتؤكد أن هناك بديلاً ممكناً.
في النهاية، لا يمكن إلا أن ننحاز إلى جانب الرئيس الكولومبي في خطوته الجريئة، فهي خطوة كسرت الصمت الدولي وأعادت الأمل في أن هناك من ما زال قادراً على قول كلمة حق في وجه قوة غاشمة، وإذا كانت الشعوب العربية قد أصابها الإحباط من صمت حكوماتها، فإن مبادرة بترو أعادت إليها شيئاً من الثقة بأن القضية الفلسطينية ما زالت قادرة على استنهاض الضمائر الحرة عبر العالم، وبينما ستُذكر أسماء كثيرة في سجل المتواطئين أو الصامتين، فإن اسم بترو سيظل محفوراً كرمز لشجاعة سياسية نادرة في زمن عزّت فيه المواقف المبدئية، إن التاريخ سيقف شاهداً على أن رئيساً من كولومبيا حمل همّ فلسطين بينما تقاعس الأقربون، وأن هذه المفارقة ستظل تفضح خذلان الأنظمة العربية وتُعلي من شأن من تجرأ على الوقوف في صف المظلومين.