الوقت- في تقرير لافت نشرته صحيفة هآرتس العبرية، وُصِف المشهد الإسرائيلي الداخلي بأنه يعيش مفارقة أخلاقية صارخة؛ فمن جهة يقود البلاد رئيس وزراء يوصف بـ"الدموي" و"الذي لا يعبأ بحياة البشر"، ومن جهة أخرى، يقف معارضو الحرب على غزة في الداخل الإسرائيلي وكأنهم يحملون خطابًا إنسانيًا، غير أن الحقيقة تكشف عن أن تعاطفهم محصور داخل حدود "الإسرائيلي" فقط، بينما يغضون الطرف عن الكارثة الإنسانية المستمرة التي يتعرض لها الفلسطينيون.
هذا التقرير أثار جدلاً واسعاً، لأنه يفضح زيف بعض الحركات الاحتجاجية في الكيان الإسرائيلي، ويكشف عن عمق الانفصال الأخلاقي بين خطاب الإنسانية الشكلي والممارسة الفعلية التي تكرّس التمييز والتجاهل.
خلفية الحرب وسياق التقرير
منذ السابع من أكتوبر 2023، ومع اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، يعيش الفلسطينيون واحدة من أكثر الفترات دموية في تاريخهم الحديث، القصف المستمر، الحصار المشدد، والمجازر اليومية جعلت غزة ميدان إبادة مفتوحة، تقارير المنظمات الدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية، توثق يومياً أرقامًا مفزعة: آلاف الأطفال بين قتيل وجريح، مئات آلاف النازحين، تدمير كامل للبنية التحتية، وانهيار شبه تام للنظام الصحي والإنساني.
في المقابل، برزت داخل الكيان الإسرائيلي حركات احتجاجية تطالب بوقف الحرب، أو على الأقل تبدي معارضتها لسياسات نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة، غير أن مضمون هذه الاحتجاجات، كما تشير هآرتس، لا يعكس موقفاً إنسانياً شاملاً، بل يتركز أساساً حول قضية الأسرى الإسرائيليين المحتجزين لدى حركة حماس، هؤلاء المحتجون، حسب الصحيفة، يبذلون قصارى جهدهم لتأمين حرية نحو 20 أسيراً، لكنهم يتجاهلون – ببرود لافت – موت ما يقارب 20 فلسطينياً مدنياً في كل ساعة، وفق المعدلات التي يسجلها القصف الإسرائيلي على غزة.
صورة "الشر المزدوج"
تقرير هآرتس يذهب أبعد من مجرد النقد، إذ يصف المعارضين للحرب بأنهم يمارسون "شرّاً مضاعفاً"، فبينما يرفعون أصواتهم ضد "قساوة نتنياهو"، يمارسون هم أنفسهم القسوة ذاتها حين يتعلق الأمر بالفلسطينيين، بل إن الصحيفة تلمح إلى أن تعاطفهم الانتقائي يجعلهم أكثر قسوة، لأنهم ينكرون بشكل متعمد الإنسانية المشتركة، ويحصرون الحق في الحياة باليهود الإسرائيليين فقط.
هذه المفارقة تطرح سؤالاً جوهرياً: ما قيمة الاحتجاج أو المعارضة إذا كان سقفه لا يتجاوز مصلحة ضيقة مرتبطة بجماعة قومية واحدة، ويتجاهل المذابح والجرائم التي تُرتكب ضد شعب بأكمله؟ هنا يصبح الاحتجاج مجرد "صرخة أنانية"، هدفها حماية الذات أو الأقارب، لا الانتصار لمبادئ العدالة أو حقوق الإنسان.
دماء الأسرى مقابل دماء الأطفال
النقطة الأكثر إثارة في تقرير هآرتس هي المقارنة الرقمية بين الأسرى الإسرائيليين وبين الأطفال الفلسطينيين الضحايا، تقول الصحيفة: كيف يمكن أن يخرج آلاف الإسرائيليين إلى الشوارع دعماً لعائلات 20 أسيراً، بينما لا يثير مقتل ألف رضيع فلسطيني أو أكثر من 19 ألف طفل أي تعاطف مماثل؟ كيف يمكن أن تُرفع لافتات تطالب بعودة "الأسرى إلى بيوتهم"، بينما هناك 40 ألف طفل فلسطيني أصبحوا أيتاماً بفعل العدوان ولا يجدون من يطالب بحقوقهم داخل الكيان الإسرائيلي؟
هذه المقارنة القاسية تفضح معايير مزدوجة بامتياز، ففي الخطاب الإسرائيلي الداخلي، يتم تصوير الفلسطينيين على أنهم "غير موجودين"، أو أن موتهم "تفصيل هامشي" في معركة أوسع، رغم أن أعداد الضحايا تفوق بكثير ما تعرض له الإسرائيليون أنفسهم، وهذا يعكس عمق العنصرية البنيوية في المجتمع الإسرائيلي، حيث يُختزل الوجود الفلسطيني في صورة "العدو"، حتى وإن كان الضحايا أطفالاً ورضعاً.
المعارضة الإسرائيلية بين الانقسام الداخلي والعمى الأخلاقي
يُدرك المراقبون أن جزءاً كبيراً من المعارضة في الكيان الإسرائيلي ليس معادياً للحرب من حيث المبدأ، بل معترض على إدارتها أو على تكتيكات نتنياهو التي يرونها تضر بمصالح "إسرائيل" الأمنية والسياسية، كثير من هؤلاء المحتجين يخشون أن استمرار الحرب قد يؤدي إلى تفكك الجبهة الداخلية أو إلى تدهور صورة "إسرائيل" في الخارج، لا لأنهم يتحسسون المأساة الفلسطينية، بمعنى آخر: القضية بالنسبة لهم "براغماتية" أكثر منها "أخلاقية".
تقرير هآرتس يضع اليد على هذا التناقض: المعارضون لا يتحركون لأن غزة تُباد، بل لأن الكيان الإسرائيلي "يفشل" في إنقاذ أسراه أو في تحقيق نصر عسكري حاسم، وهذا العمى الأخلاقي، برأي الصحيفة، يُفقد المعارضة مصداقيتها، ويجعلها امتداداً آخر لنهج السلطة الحاكمة، وإنْ بوجه مختلف.
دور الإعلام الإسرائيلي في تكريس التجاهل
من الأسباب الجوهرية وراء هذا الموقف الانتقائي، يأتي دور الإعلام العبري، معظم القنوات والصحف الإسرائيلية تغطي مأساة الأسرى بتفاصيل دقيقة، بينما تُغيّب إلى حد بعيد صور المجازر الفلسطينية، وحتى إن تم التطرق إليها، فإن ذلك يتم عبر سردية "الدروع البشرية" أو "المسؤولية الكاملة لحماس"، ما يحول الضحايا إلى "أرقام بلا ملامح"، بذلك، ينشأ وعي جمعي يرى في حياة الإسرائيلي قيمة مطلقة، بينما حياة الفلسطيني قابلة للمساومة أو التجاهل.
صحيفة هآرتس، باعتبارها أكثر انفتاحاً وانتقاداً للسياسات الرسمية مقارنة بغيرها من وسائل الإعلام العبرية، حاولت كسر هذا الصمت عبر تقريرها الأخير، لكنها تظل صوتاً أقلية داخل مشهد يهيمن عليه التحريض، والخوف، والنزعة القومية المتشددة.
ازدواجية المعايير في الاحتجاج: قراءة أخلاقية
من منظور أخلاقي، يمكن القول إن أي حركة احتجاجية تكتفي بالدفاع عن "ضحاياها" وتتجاهل "ضحايا الآخر" إنما تقع في فخ ازدواجية المعايير، فالإنسانية لا تتجزأ، والحق في الحياة لا يعرف جنسية أو هوية، وحين تخرج التظاهرات الإسرائيلية مطالبة بإنقاذ الأسرى، دون أن تُرفق ذلك بمطالبة بوقف المجازر في غزة، فإنها تُظهر نفسها كحركة "ضيقة الأفق"، عاجزة عن إدراك أن الأمن الحقيقي لا يقوم على دماء الأبرياء.
الأهم أن هذا السلوك يعكس تواطؤاً ضمنياً مع مشروع الإبادة نفسه، فالصمت عن الجرائم، أو تبريرها، أو تجاهلها، يعني قبولها كجزء من "الثمن" المقبول لتحقيق أهداف قومية، وهنا يفقد المجتمع الإسرائيلي، حتى في احتجاجه، أي ادعاء بالمصداقية الإنسانية.
الأبعاد الدولية: كيف يُقرأ هذا المشهد في الخارج؟
التقرير العبراني لا يظل شأناً داخلياً إسرائيلياً فقط، بل يحمل أصداء مهمة في الخارج، فالمجتمع الدولي، وخصوصاً الرأي العام الغربي، يتابع بقلق ما يجري في غزة، وهناك تنامٍ لخطاب يعتبر أن الكيان الإسرائيلي يمارس "إبادة جماعية" أو على الأقل "جرائم حرب ممنهجة"، حين يرى العالم أن المعارضة داخل الكيان الإسرائيلي نفسها لا تهتم بمصير الفلسطينيين، فإن ذلك يعمّق صورة الكيان الإسرائيلي كدولة معزولة أخلاقياً، لا تمتلك في داخلها قوى حقيقية قادرة على وقف الجرائم أو حتى رفضها بوضوح.
بل إن هذه الازدواجية تمنح شرعية إضافية لحركات التضامن العالمية التي تنادي بالمقاطعة وفرض العقوبات على الكيان الإسرائيلي، فإذا كان حتى "المعارضون" داخل الكيان الإسرائيلي عاجزين عن تبني موقف إنساني شامل، فإن الأمل يتجه أكثر فأكثر إلى الضغط الخارجي.
دماء الفلسطينيين: "التفصيل المنسي"
تقرير هآرتس يذكّر القارئ الإسرائيلي والعالمي بحقيقة دامغة: أن الحرب ليست مجرد مواجهة عسكرية بين الكيان الإسرائيلي وحماس، بل هي بالأساس حرب ضد المدنيين الفلسطينيين، آلاف الأطفال القتلى، عشرات آلاف الجرحى، مئات آلاف البيوت المدمرة، ومستقبل جيل كامل يُمحى يومياً، لكن هذه الكارثة الإنسانية لا تحتل صدارة النقاش الإسرائيلي الداخلي، بل تُعامل كأنها "تفصيل منسي" في سياق السجال حول مصير الأسرى أو مصير نتنياهو السياسي.
هذه الحقيقة تكشف أن المأساة الفلسطينية لم تعد مجرد قضية "خارجية" للكيان الإسرائيلي، بل أصبحت "مسكوتاً عنها" داخلها، ما يجعل المجتمع الإسرائيلي برمته شريكاً في الجريمة، إما بالفعل أو بالصمت.
نحو أي مستقبل؟
السؤال الذي يطرحه تقرير هآرتس بوضوح هو: هل يمكن أن تكتسب المعارضة الإسرائيلية أي مصداقية أو قوة إذا لم تدمج بين مطلب حرية الأسرى ووقف الإبادة في غزة؟ الإجابة التي تلمّح إليها الصحيفة هي "لا"، فحركة احتجاجية تتجاهل نصف الحقيقة لا يمكن أن تؤسس لمستقبل مختلف، بل ستظل رهينة أنانيتها وضيق أفقها.
بل إن استمرار هذه الازدواجية يعني أن "إسرائيل" ستبقى عالقة في دوامة عنف لا نهاية لها: كل أسير يُحرر قد يُختطف مكانه آخر، وكل عملية عسكرية جديدة ستُنتج مزيداً من الضحايا، طالما لم يتم الاعتراف بالحق الأساسي للفلسطينيين في الحياة والحرية.
في المحصلة، تقرير هآرتس يمثل مرآة قاسية تعكس هشاشة "الإنسانية الانتقائية" داخل المجتمع الإسرائيلي، فالمعارضة التي تصرخ من أجل 20 أسيراً، وتصمت عن 20 ضحية فلسطينية كل ساعة، ليست أكثر من صورة أخرى لذات النظام الذي تنتقده، بل قد تكون أكثر خطورة لأنها تمنح نفسها غطاءً أخلاقياً زائفاً.
إن أي حديث عن العدالة والسلام لا يمكن أن يكتسب معنى حقيقياً إلا إذا اعترف بالمأساة الفلسطينية كجرح إنساني شامل، لا كتفصيل ثانوي، دماء الأطفال في غزة ليست "أرقاماً عابرة"، بل هي الحقيقة الجوهرية التي تحدد مدى إنسانية العالم، وصدق ادعاءاته، أما الكيان الإسرائيلي، بحكومته ومعارضته معاً، فتبدو اليوم – كما وصفتها هآرتس – دولة يقودها "رئيس وزراء دموي" وتعيش في ظل مجتمع ينكر الآخر، ويحتفي فقط بآلامه الخاصة، متناسياً أن الإنسانية لا تتجزأ، وأن الصمت عن الإبادة جريمة لا تقل فداحة عن ارتكابها.