الوقت- تعود ظاهرة التهجير القسري في سوريا إلى سنوات الحرب الأولى، حيث لجأت أطراف متعددة إلى استخدام سلاح التغيير السكاني كوسيلة لإحكام السيطرة أو إعادة تشكيل الخريطة الاجتماعية بما يخدم أهدافها السياسية والعسكرية، وفي الأشهر الأخيرة، برزت تقارير عن تهجير عائلات علوية من محلة السومرية في دمشق، ما أعاد إلى الواجهة النقاش حول ما إذا كانت البلاد تسير نحو مرحلة جديدة من إعادة رسم هويتها الديموغرافية.
الأزمة لا تقتصر على مجرد انتقال سكان من حي إلى آخر، بل تكشف عن أزمة بنيوية في إدارة التنوع السوري. فالنظام السياسي، الذي قدّم نفسه طوال عقود كضامن للاستقرار وحامي للأقليات، يواجه اليوم أسئلة صعبة حول قدرته على حماية حلفائه الأقربين، في المقابل، تبدو القوى المحلية والجماعات المسلحة قادرة على فرض وقائع على الأرض، ولو على حساب وحدة النسيج الاجتماعي.
البعد الإنساني: أسرٌ بين التشريد وفقدان الأمان
عند النظر إلى الحدث من زاوية إنسانية، نجد أنّ العائلات التي طُلب منها مغادرة منازلها لا تواجه فقط خسارة مادية، بل أيضاً صدمة نفسية عميقة، ففقدان المنزل في الثقافة السورية ليس مسألة ثانوية، إذ يُعتبر البيت رمزاً للاستقرار والكرامة والاستمرارية العائلية، التهجير تحت التهديد يترك آثاراً تمتد لأجيال، حيث ينشأ الأطفال وهم يحملون شعوراً بالاقتلاع وعدم الانتماء.
إضافة إلى ذلك، فإن الظروف التي يتم فيها التهجير ـــ سواء بمنع الأسر من حمل أمتعتها أو عبر استخدام العنف المباشر ـــ تعكس تهميشاً مضاعفاً لتلك الفئات، فالمهجَّر لا يخسر ممتلكاته فحسب، بل يُحرم أيضاً من حقه في الدفاع عن وجوده، ليجد نفسه أمام خيارات محدودة: إما النزوح إلى مناطق أخرى مكتظة باللاجئين، أو مواجهة المجهول في العراء.
التغيير الديموغرافي كسلاح سياسي
من منظور سياسي، يُنظر إلى التهجير القسري في دمشق باعتباره حلقة جديدة من سلسلة محاولات لإعادة رسم الخريطة السكانية بما يتماشى مع مصالح قوى متحكمة، قد يُستخدم التهجير لتحقيق أهداف متباينة: خلق مناطق متجانسة طائفياً، تقليص نفوذ جماعات معينة، أو حتى تسهيل مشاريع اقتصادية واستثمارية تحت غطاء "إعادة الإعمار".
التاريخ السوري حافل بالأمثلة على استغلال البنية الاجتماعية لتحقيق مكاسب سياسية، واليوم، يبدو أن التوازنات الهشة بين الطوائف والمذاهب أصبحت عرضة للتلاعب الممنهج، ما يثير مخاوف من أن يتحول التنوع السوري من مصدر غنى إلى ساحة صراع مستمر.
انعكاسات على المشهد السوري العام
لا يمكن النظر إلى التهجير الأخير بمعزل عن السياق الأوسع للأزمة السورية، فالحرب الطويلة أنهكت البنية المجتمعية وأضعفت الروابط بين المكوّنات، وبدلاً من الاتجاه نحو المصالحة الوطنية وإعادة بناء الثقة، تُفاقم هذه الممارسات حالة الانقسام وتُكرّس منطق الغلبة.
على المدى البعيد، قد يؤدي استمرار سياسات التهجير إلى إعادة إنتاج صراعات جديدة، فالمناطق التي تُفرغ من سكانها الأصليين ستظل تحمل ذاكرة ظلم، ما قد يولّد نزعات انتقامية أو مطالبات بالعودة في المستقبل، وهذا ما يجعل مسار التسوية السياسية أكثر تعقيداً، إذ سيتعين على أي حلّ شامل أن يعالج ليس فقط القضايا الدستورية والأمنية، بل أيضاً المظالم المجتمعية الناتجة عن التهجير.
المواقف الإقليمية والدولية
رغم حساسية الموضوع، لم تُسجَّل حتى الآن مواقف قوية من القوى الدولية الفاعلة تجاه التهجير القسري في دمشق. ويعود ذلك إلى عدة أسباب، منها انشغال العالم بأزمات أخرى، وتراجع الاهتمام الدولي بالشأن السوري، فضلاً عن صعوبة توثيق الأحداث بسبب الحصار الإعلامي.
لكن غياب التنديد العلني لا يعني أن المسألة بلا تداعيات، فالدول المجاورة لسوريا، التي تستضيف ملايين اللاجئين، تدرك أن استمرار موجات التهجير سيُعيق أي خطط لعودة اللاجئين أو استقرار المنطقة، كما أن القوى الكبرى، التي تسعى إلى فرض تسويات سياسية، تجد نفسها أمام معضلة: كيف يمكن الحديث عن إعادة الإعمار والاستثمار في بلد تُغيَّر تركيبته السكانية قسراً؟
مستقبل التعايش السوري
السؤال الأبرز الذي يفرض نفسه هو: هل يمكن لسوريا أن تستعيد نموذجها التاريخي كبلد متعدد الطوائف والأديان؟
الجواب ليس سهلاً، فالتجربة القاسية للتهجير، سواء في دمشق أو غيرها من المدن، تركت جروحاً عميقة في جسد المجتمع السوري، ومع ذلك، يظل الأمل قائماً بأن تتمكن قوى المجتمع المدني، والنخب الثقافية والسياسية، من لعب دور في إعادة ترميم الثقة.
إنّ الاعتراف بالمظلومية وفتح ملفات التهجير بجرأة يُعدّ خطوة أولى نحو مصالحة حقيقية، لكن هذه الخطوة تحتاج إلى بيئة سياسية آمنة، وإلى إرادة وطنية تتجاوز الحسابات الطائفية الضيقة، فالمستقبل المشترك للسوريين مرهون بقدرتهم على تحويل تنوعهم إلى مصدر قوة، لا إلى أداة صراع.
في الختام، التهجير القسري الذي شهدته بعض الأحياء في دمشق ليس حادثاً معزولاً، بل جزء من مسار أوسع يهدد وحدة النسيج الاجتماعي السوري، وبينما يعاني الأهالي من فقدان منازلهم ومصادر أمانهم، تزداد المخاوف من أن يكون ما جرى مقدمة لمرحلة جديدة من إعادة تشكيل الهوية الديموغرافية للبلاد.
التعامل مع هذه الظاهرة يتطلب أكثر من بيانات شجب أو دعوات عابرة؛ يحتاج إلى رؤية شاملة تضع الإنسان في قلب أي عملية سياسية، وتُعيد الاعتبار للعدالة الاجتماعية كشرط أساسي للاستقرار، فمن دون معالجة جذرية لهذه الجروح، سيبقى حلم سوريا الموحدة، المتنوعة والعادلة، بعيد المنال.