الوقت- أثار تصريح أبو محمد الجولاني، زعيم الفصائل المسلحة التي باتت تمسك بزمام السلطة في سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد، ضجة واسعة عندما أكد أن مفاوضات متقدمة تجري مع الكيان الصهيوني بهدف إبرام اتفاق أمني خلال الأسابيع القادمة، هذا الإعلان جاء في سياق استقبال الجولاني لوفد إعلامي في دمشق، حيث شدد على أنه لن يتردد في توقيع أي اتفاق يصب في مصلحة سوريا، معتبراً أن أي تفاهم سيتم الإعلان عنه بشكل رسمي وعلني.
تصريحات الجولاني تمثل تحولا جذرياً في الخطاب السياسي السوري، وتكشف عن استعداد النظام الجديد للانخراط في سياسة تتجاوز المواجهة التقليدية مع "إسرائيل"، في وقت تسعى فيه تل أبيب إلى تعزيز نفوذها وتوسيع أطماعها الاستراتيجية عبر الأراضي العربية المجاورة.
من خط وقف إطلاق النار إلى اتفاق محتمل
الجولاني أشار في حديثه إلى أن أي اتفاق سلام مع "إسرائيل" سيستند إلى خط وقف إطلاق النار لعام 1974، وهو الخط الذي رسمته الأمم المتحدة بعد حرب تشرين التحريرية، مؤكداً أن ذلك سيحافظ على سيادة سوريا ويمهّد الطريق لإجراءات لبناء الثقة وربما التوصل لاحقاً إلى اتفاق سلام شامل، هذا الطرح يفتح الباب أمام نقاش واسع حول طبيعة "السيادة" التي يقصدها الجولاني، إذ إن أي التزام بالخط المذكور يعني عملياً القبول باستمرار السيطرة الإسرائيلية على هضبة الجولان، وهو ما كان يُعتبر خطاً أحمر في السياسة السورية لعقود طويلة، هنا يظهر التناقض بين الحديث عن الحفاظ على السيادة وبين ما يُتداول عن استعداد النظام الجديد للاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان مقابل مكاسب اقتصادية.
الأطماع الإسرائيلية في الأراضي العربية
الخطاب الإسرائيلي حول الاتفاق يكشف عن أطماع أوسع لا تقتصر على سوريا فقط، بل تشمل السيطرة على ممرات استراتيجية وأراضٍ محتلة تاريخياً مثل الجولان وفلسطين، ومحاولة فرض ترتيبات أمنية تقلص قدرة الدول العربية على الدفاع عن أراضيها، في المقابل، يعتبر الإعلام الإسرائيلي أن هذا الاتفاق يتيح تثبيت وجودها العسكري والأمني في شمال المشرق، مع تعزيز مكاسبها الاستراتيجية على حساب مصالح العرب، وبالتالي، فإن أي قبول سوري بهذا الاتفاق سيكون بمثابة خطوة لتكريس نفوذ إسرائيلي أوسع على كامل الأراضي العربية المتأثرة تاريخياً بالصراعات مع تل أبيب.
الدور الإسرائيلي والمكاسب الأمنية
وسائل الإعلام العبرية روجت أن "إسرائيل" وسوريا على وشك توقيع اتفاق أمني بوساطة الولايات المتحدة وبعض دول الخليج، مع توقع إنجازه قبل نهاية شهر أيلول/سبتمبر المقبل، المحللون في تل أبيب وصفوا هذه الخطوة بأنها فرصة استراتيجية لـ"إسرائيل"، ليس فقط لتثبيت هدوء جبهتها الشمالية، بل أيضاً لفتح صفحة جديدة مع سلطة سورية مستعدة للاعتراف بأمر واقع الاحتلال، ورغم إدراك الإسرائيليين للمخاطر الكامنة في عدم استقرار الوضع السوري بشكل كامل، فإنهم يرون في هذا الاتفاق فرصة تاريخية لإخراج سوريا من محور المقاومة، وتحويلها من دولة معادية إلى طرف يسعى للاستقرار ولو على حساب حقوقه التاريخية.
المقايضة بين الاقتصاد والسيادة
منذ سقوط نظام الأسد، أرسل النظام الجديد إشارات متعددة عن استعداده لانتهاج سياسة منفتحة تشمل التطبيع مع "إسرائيل"، وخلال النصف الأول من عام 2025، انخرط وسطاء إقليميون وأوروبيون في جهود لفتح قنوات اتصال بين دمشق وتل أبيب، وحسب التقارير، فإن النظام السوري الحالي لا يكتفي بالتوجه نحو توقيع اتفاق أمني، بل أبدى استعداداً للاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان المحتل مقابل ضمانات اقتصادية تتعلق بتخفيف أو رفع العقوبات الغربية، هذا التحول يعكس معادلة جديدة في سوريا: المقايضة بين الأرض والسيادة من جهة، والمكاسب الاقتصادية والوعود برفع الحصار من جهة أخرى.
تداعيات على المشهد السوري الداخلي
من الواضح أن الحديث عن اتفاق أمني مع "إسرائيل" سيحدث انقساماً داخل الساحة السورية، حيث يرى جزء من المجتمع أن الأولوية بعد سنوات الحرب الطويلة هي إعادة الإعمار وإنهاء العزلة الدولية، بينما يعتبر آخرون أن هذه الخطوة تمثل خيانة لدماء السوريين الذين قاتلوا من أجل تحرير أرضهم، شخصية الجولاني نفسها مثيرة للجدل، فهو الذي عرف لسنوات كزعيم لتنظيم مسلح مصنف إرهابياً، ثم أعاد إنتاج نفسه كقائد سياسي يفاوض على مستقبل سوريا، هذا التحول يضع تساؤلات كبيرة حول مدى شرعيته وقدرته على تمثيل الدولة السورية في اتفاقات مصيرية كهذه.
البعد الإقليمي والتحولات الجيوسياسية
إبرام اتفاق أمني بين سوريا و"إسرائيل" لن تكون له تداعيات داخلية فقط، بل سيغيّر أيضاً معادلات إقليمية كبرى، خروج سوريا من دائرة الصراع المباشر مع "إسرائيل" سيعني عملياً تحولاً جوهرياً في موازين القوى في المشرق العربي، حيث ستخسر المقاومة العربية أحد أهم أوراقها التاريخية، بينما ستكسب "إسرائيل" جبهة شمالية أكثر هدوءاً.
دخول بعض الدول الخليجية على خط الوساطة والدعم يعكس بدوره اصطفافات جديدة في المنطقة، إذ يجري تقديم "السلام مع إسرائيل" كمدخل لإعادة دمج سوريا في النظام العربي والدولي بعد سنوات من العزلة، ومن شأن هذا المسار أن يفتح الباب أمام إعادة رسم شبكة التحالفات الإقليمية، بما يجعل أي تفاهم سوري–إسرائيلي نقطة ارتكاز لتوازنات جديدة في الشرق الأوسط.
بين الفرص والمخاطر
الاتفاق الأمني المزعوم بين سوريا و"إسرائيل" بعد سقوط الأسد يمثل لحظة مفصلية في تاريخ المشرق العربي، فهو يفتح فرصة لإنهاء سنوات الحرب وإعادة إعمار سوريا، لكنه في الوقت نفسه يشرعن الاحتلال الإسرائيلي للجولان ويعزز نفوذ "إسرائيل" الاستراتيجي عبر الأراضي العربية، هذا التحول يوضح كيفية استخدام إسرائيل "اتفاقات أمنية" لتثبيت وجودها وتوسيع أطماعها، بينما تواجه سوريا تحديات للحفاظ على سيادتها وتحقيق مصالح شعبها في بيئة عربية وإقليمية معقدة.