الوقت - يقترب العامان من اندلاع أوار الحرب على غزة في تشرين الأول عام 2023؛ حرب انطلقت بوعود فضفاضة وغايات واضحة أعلنتها حكومة الحرب الصهيونية: محو القدرات العسكرية لحماس من الوجود، واسترداد الأسرى، وتوفير الأمن الدائم للمستوطنين، وإرساء دعائم نظام حكم جديد في غزة، بيد أنه في العاشر من آب 2025، عاد بنيامين نتنياهو ليجتر الأهداف ذاتها التي أطلقها في مستهل الحرب، لكن هذه المرة في قالب “شروط خمسة” لإخماد نيران الحرب:
تجريد حماس من سلاحها بالكامل
إطلاق سراح جميع الأسرى
نزع السلاح من غزة
فرض الهيمنة الأمنية الإسرائيلية على غزة
تشكيل حكومة مدنية منبتّة الصلة بحماس والسلطة الفلسطينية
هذه العودة القهقرى إلى نقطة البداية، تحمل في طياتها دلالةً أعمق من مجرد موقفٍ دبلوماسي عابر: إنها اعتراف ضمني بإخفاق جميع العمليات والخطط والمناورات السياسية والعسكرية للكيان الصهيوني طوال الأشهر الاثنين والعشرين المنصرمة، هذا التحول لم يعمّق الصدوع السياسية داخل الحكومة والمجتمع الصهيوني فحسب، بل يكشف النقاب عن أن نتنياهو يرزح الآن تحت نير ضغطٍ داخلي غير مسبوق وانعدام ثقة شعبية.
أهداف تلاشت في سراب الوهم: من الوعود الطنانة إلى المأزق العملياتي
جهر نتنياهو وأنصاره في أواخر 2023 بلهجة قاطعة أن “غزة لن تعود أبداً إلى سالف عهدها قبل السابع من تشرين الأول”، غير أن الواقع اليوم يشهد أن القدرات العسكرية لحماس لم تُستأصل جذورها، ولم يُفك أسر جميع المأسورين، ولم تتبلور بنية حكم بديلة في غزة، بل إن تقارير جيش الاحتلال ذاته تفيد بأن حماس تمكنت من استعادة أجزاء من شبكتها النفقية وهيكلها القيادي، ومواصلة هجماتها المتفرقة.
في خضم هذه الظروف، فإن تکرار الأهداف الأولى ذاتها بثوب الشروط المستحدثة، يُعد في عيون المراقبين الداخليين إقراراً جلياً بالهزيمة الإستراتيجية، وتصف وسائل الإعلام المناوئة هذا التقهقر بأنه برهان ساطع على “تسييس الحرب”، و"تخبط الحكومة".
الصدوع داخل أركان الحكومة: ضغط المتطرفين اليمينيين وسيف الانتخابات المسلط
طالب أقطاب الحكومة المتشددون، ولا سيما من الجناح اليميني المتدين، نتنياهو بتنفيذ خطة الاحتلال الكامل لغزة على جناح السرعة، وقد لوّح بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير بسيف الدعوة إلى انتخابات مبكرة إذا تلكأت الحكومة.
من جهة أخرى، يرى بعض الوزراء وكبار القادة العسكريين أن مثل هذه الخطة، دون اتفاق لوقف إطلاق النار وضمان عودة الأسرى، قد تتحول إلى “فيتنام إسرائيل” وتفرض تكاليف بشرية واقتصادية تنوء بها الكاهل.
الاحتجاجات الشعبية العارمة: من ذوي الأسرى إلى الحركات المدنية
اشتعلت في الأيام الأخيرة نيران المظاهرات الحاشدة في تل أبيب وحيفا وبئر السبع ضد استمرار رحى الحرب وخطة الاحتلال الكامل لغزة، وتكيل أسر الأسرى، الذين لم يبق منهم على قيد الحياة سوى نحو 20 من أصل 50 أسيراً متبقياً، تهم “اللامبالاة المطلقة تجاه حياة أحبائهم” للحكومة، ويقولون إن نتنياهو مستعد للتضحية بمصير الأسرى على مذبح البقاء في سدة السلطة.
واقتحمت الحركات المدنية والاتحادات الاجتماعية ساحة المعترك أيضاً، حتى شريحة من مجتمع الحريديم - الذين طالما ناصبوا الخدمة الإلزامية العداء - انضمت إلى صفوف المحتجين واصفةً الحرب بأنها “عقيمة النتائج”، ويكشف حضور هذه الفئة المتدينة في خضم الاحتجاجات، عن اتساع رقعة السخط لتشمل شرائح دأبت على النأي بنفسها عن دهاليز السياسة الخارجية للحكومة.
ويرى المنتقدون في الداخل أن نتنياهو يؤثر بقاءه السياسي على الأمن القومي أو فك أسر المأسورين، فهو يسعى، من خلال إطالة أمد الحرب والتنكّب عن الاعتراف بالهزيمة، إلى تأجيل انهيار حكومته، ومحاكمته المرتقبة في قضايا الفساد المتشعبة.
وقد دعا لابيد، زعيم المعارضة، الشعب إلى تقويض أركان حكومة نتنياهو عبر احتجاجات عارمة، وقد لاقت هذه الدعوة استجابةً متصاعدةً، وشهدت تجمعات مناهضة الحرب في الأيام الأخيرة تنامياً ملحوظاً.
الشرخ في صفوف الجيش: قادة يطلقون صيحات التحذير
من أبرز التطورات الأخيرة، المعارضة الجهرية لكبار قادة الجيش لخطة الاحتلال الكامل لغزة، فقد جهر إيال زامير، رئيس هيئة الأركان العامة، بأن مثل هذه العملية لا تضمن أمن "إسرائيل" فحسب، بل قد تعرض حياة الأسرى للخطر الداهم، وتفضي إلى استنزاف القدرات العسكرية للبلاد.
كما وجّه أكثر من ألف طيار وعنصر من سلاح الجو المتقاعدين، في رسالة مكشوفة، أصابع الاتهام للحكومة بمواصلة الحرب لتحقيق مآرب شخصية لرئيس الوزراء، وأعلن هؤلاء الطيارون المتقاعدون والاحتياط في جيش الاحتلال الصهيوني، في بيان، عزمهم على تنظيم مظاهرة صاخبة ضد توسيع نطاق الحرب في غزة في الساعة السابعة من مساء الثلاثاء أمام مقر هيئة الأركان العامة.
تحمل مظاهرات الطيارين، باعتبارهم عماد جيش الاحتلال الصهيوني، رسالةً ذات مغزى عميق عن تصاعد أصوات المعارضة بين صفوف العسكريين واحتمال العصيان على الأوامر في قادم الأيام، وفي هذا السياق، يشكّل خمود جذوة الحماس بين قوات الاحتياط وإحجام بعضهم عن العودة إلى ساحة الخدمة، مؤشراً آخر على أزمة الروح المعنوية المستشرية في أوصال الجيش.
أعباء الاحتلال الكامل: من استنفار الجنود إلى الأزمة الاقتصادية الطاحنة
تشير التقديرات الداخلية إلى أن تنفيذ خطة الاحتلال الكامل لغزة، يستلزم استنفار أكثر من 400 ألف مقاتل، وانتشاراً طويل الأمد، وإنفاق مليارات الدولارات كتكاليف عملياتية باهظة، ويجابه هذا الحشد الهائل من القوات ممانعةً شديدةً من المجتمع، وخاصةً الحريديم وأسر جنود الاحتياط.
من المنظور الاقتصادي، أفضى استمرار رحى الحرب إلى ركودٍ حاد في قطاعات السياحة والصادرات والاستثمار الأجنبي، وبلغت نسبة البطالة في بعض المناطق ذروتها في العقد الأخير، والدين العام للحكومة في تصاعد مستمر.
شبح انهيار الحكومة والسيناريوهات المرتقبة
مع تصاعد حدة الضغوط الداخلية، تتبلور سيناريوهان رئيسيان لمستقبل نتنياهو:
الرضوخ للضغوط وقبول وقف إطلاق النار مع اتفاق لتبادل الأسرى، ما قد يفضي إلى انشقاق في الجناح اليميني للحكومة.
المضي قدماً في خطة الاحتلال الكامل لاستمالة قلوب اليمينيين المتطرفين، مع مخاطر إطالة أمد الحرب، واستنزاف قوى الجيش، وتفاقم الأزمة الاقتصادية.
في كلتا الحالتين، يواجه بقاء نتنياهو في سدة الحكم شكوكاً عميقةً، ولا يُستبعد إجراء انتخابات مبكرة في الأشهر القادمة.
لم تعد قضية غزة بالنسبة لـ "إسرائيل" مجرد “ساحة حرب”؛ بل امتدت جذورها إلى قلب الحياة السياسية الداخلية، وشوارع تل أبيب، وحتى دهاليز القيادة العسكرية، وربما تكون هذه الحقيقة الناصعة أكبر عائقٍ يعترض سبيل خطة الاحتلال الكامل - وهي خطة قد تُزج بـ "إسرائيل"، في حال تنفيذها، في أتون صراعٍ استنزافي تتخطى تداعياته المدمرة حدود غزة.
إن الوضع الراهن للكيان الصهيوني في حرب غزة ليس مجرد أزمة عسكرية، بل نسيج متشابك من التحديات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية، وبتکراره لأهداف الحرب الأولى بثوب الشروط المستحدثة، أقرّ نتنياهو ضمناً بأن عامين من الحرب الضروس لم يمكّناه من الوفاء بوعوده الطنانة، وفي المقابل، يضيق عليه الخناق يوماً إثر يوم من قبل مجتمعٍ أنهكته الحرب، وجيشٍ تصدعت أركانه، واقتصادٍ يئنّ تحت وطأة الضغوط المتزايدة.