الوقت- بثت شبكة الجزيرة عبر برنامجها التحقيقي «ما خفي أعظم» تحقيقاً فاجأ الرأي العام الفلسطيني والعالمي، حين عرض ما تقول إنه «وثائق حصرية وأسماء وصور» لضباط وجنود في الجيش الإسرائيلي متورّطين في جريمة قتل الطفلة هند رجب وعائلتها في حيّ تل الهوى جنوب-غرب مدينة غزة في الـ 29 من يناير/كانون الثاني 2024.
ما لم يكن متوقّعاً هو أن يحمل هذا التحقيق بعداً أكبر من مجرد «إبراز واقعة» فرديّة، بل يطرح دليلاً على أنماط منظّمة من العنف ضد المدنيين في قطاع غزة، في سياق يُشكّك فيه بالحصانة التي يتمتّع بها مرتكبو الجرائم، ولعلّ هذا ما أكّده القيادي في حركة حماس، علي بركة، حين اعتبر أن «ما كشفه التحقيق يفضح حجم الفظائع التي ارتكبها جيش الاحتلال بحق الأبرياء العُزّل في قطاع غزة».
في هذه المقالة التحليليّة نرصد تفاصيل الجريمة، وأهميّة ما كشفه التحقيق، وسياقها في الحرب الأوسع على غزة، فضلاً عن تداعياتها الحقوقية والسياسية.
ما جرى: تفاصيل الحادثة
في الـ 29 من يناير/كانون الثاني 2024، كان الطفلة هند رجب، التي يُشار إليها غالباً بعمر خمس سنوات (وأحياناً ست سنوات)، تقلّ السيارة التي كان أقلّها من سكان حيّ تل الهوى في جنوب-غرب مدينة غزة، بصحبة ستة من أقاربها، في محاولة للخروج من منطقة التوغل العسكري الإسرائيلي
وفق تحقيق Forensic Architecture، فإن السيارة تعرّضت لإطلاق نيران كثيف، حيث لاحظ المحلّلون أن الدبّابة التابعة لـ"إسرائيل" كانت قريبة جداً من السيارة (بين الـ 13 والـ 23 متراً) وأن السيارة أُصيبت بنحو 335 طلقة.
ما يزيد من بشاعة المشهد هو أن هند وُجدت بعد ساعات-أو أمـضت وقتاً على الأقل محتجزة في السيارة وسط الجثث، وهي تتواصل هاتفياً مع فرق الإسعاف التابعة لـ جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني لطلب المساعدة، لكن الآلة جاءت وليس من يخرجها، ثم كذلك المسعفون الذين حاولوا الوصول أُصيبوا أو قُتلوا في طريقهم نحوها.
وفي الـ 10 من فبراير/شباط تم العثور على جثثها وجثث عدة من عائلتها وجثث المسعفين في نفس مكان الحادث أو قربه.
هذه الوقائع جعلت من الحادثة أكثر من مجرد حادثة عابرة، بل رمزا لمدى الإشكال في تطبيق القوانين الدولية في الحرب، وخاصة حين يتعلق الأمر بالأطفال وأفراد الطواقم الإنسانية.
ما كشفه التحقيق: أسماء، صور، دلائل
يضيف تحقيق برنامج «ما خفي أعظم» بُعداً آخر: إذ ادّعى الكشف عن أسماء الضباط والجنود الإسرائيليين المتورّطين في الحادثة، إضافة إلى معلومات عن المسعفين الذين استجابوا، والذين قُتلوا عند محاولة إنقاذ الضحية.
من بين الأسماء التي ذُكرت: قائد اللواء المدرع 401، الضابط بني أهارون، وقائد الكتيبة 52، الضابط دانيال إيلا، حسب ما ذكره التحقيق، ولفت التحقيق إلى أن شكوى قُدّمت ضد الأهليين إلى المحكمة الجنائية الدولية في مايو من “مؤسسة هند رجب الحقوقية” التي تتخذ من بروكسل مقراً لها.
التحقيق تضمن أيضاً مقاطع مصورة، بيانات مسرّبة، وتحليل صور/أدلة ميدانية، تعطينا – حسب البرنامج – ثبوتاً أقوى مما يُنشر عادة في ظروف الحرب
وعلى الأرض، ردّت حركة “حماس” بأن ما كشفه التحقيق ليس مجرد حادث فردي، بل دليل على سياسة “معلَنة للإبادة الجماعية والتطهير العرقي”، حسب تصريح علي بركة.
سياق الحادثة ضمن الحرب على غزة
لا يمكن قراءة جريمة هند رجب بمعزل عن سياق الحرب الشاملة التي تشنّها "إسرائيل" في غزة منذ الـ 7 من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وامتدادها، تشير تقارير إلى أن عدد القتلى الفلسطينيين منذ بدء الهجمات تجاوز 67 000 شخص – رقماً لا يشمل بالضرورة الذين ما زالوا تحت الأنقاض
ويُشير تقرير «The Lancet» إلى أن الوفيات نتيجة الإصابات الرضحية وحدها قُدّرت بنحو 64 260 حالة حتى الـ 30 من يونيو/حزيران 2024، ما يوحي بأن الأرقام الرسمية قد تُعدّ دون الحصيلة الكاملة.
في هذا المناخ، تظهر حادثة هند كجزء من “سلسلة” – بحسب المحللين – من تنفيذ ضربات في مناطق مدنية، وقتل عائلات كاملة، أو استهداف من وصفوا بالمُضحّين من المدنيين ومساعِدين.
ومع انتشار مثل هذه الحوادث، تتصاعد المطالب الدولية بتحقيقات ومحاكمات، فضلاً عن الدعوة إلى تدخلات عاجلة لمنع المزيد من الانهيار الإنساني، الأسري، والمجتمعي في غزة.
الأبعاد السياسية والإعلامية
تحقيق «ما خفي أعظم» يحمل بعداً سياسياً وإعلامياً محوريّاً:
- تقويض الحيادية الإعلامية: من خلال الكشف عن أسماء وصور، يطرح التحقيق تحدياً لمرويات سطحية أو قد تتجاهل التفاصيل الدقيقة للحرب.
- الاستفادة الرمزية للضحية: أصبحت هند رجب رمزاً مدنياً في غزة؛ يُستخدم اسمها وتفاصيلها كمدخل لفتح ملفّات أكبر عن الجرائم.
- الضغط على المجتمع الدولي: البيانات التي نشرتها الحركة والمؤسسات الحقوقية تستهدف إحداث ضغط على الدول والمنظمات الدولية للتحرّك والردّ.
- ربط الحوادث الفردية بالحرب الشاملة: بدلاً من أن تُعامل الحادثة كحادث معزول، تم إدراجها ضمن «سياسة معلَنة للإبادة والتطهير» – في كلمات علي بركة – ما يوسع نطاق الجدل من واجب الإنصاف الفردي إلى مسؤولية النظام والصنع.
- استثمار قانوني-دولي: تقديم الشكوى إلى المحكمة الجنائية الدولية يظهر أن الاستخدام الإعلامي ليس فقط للتوثيق، بل للتحفيز على عمل قانوني.
لماذا تُعدّ هذه الحادثة مفصلية؟
- حجم الدليل: وجود لقطات، أسماء، بيانات مسربة وتحليل ميداني يجعل الحادثة أكثر من مجرد ادّعاء، بل مادة قانونية محتملة.
- التزامن مع حملة تدمير واسعة النطاق: في وقت تسجّل فيه غزة أعداداً ضخمة من القتلى المدنيين – حسب المنظمات المستقلة – فإن هذه الحادثة تعبّر عن «وجه الطفل» لهذه الأرقام.
- إشارة إلى فتح الباب أمام مساءلة إسرائيلية أكبر: إذ إن الكشف الإعلامي والتحرّك الحقوقي قد يمهّدان لملاحقة جنود وضباط وربما مرتبة أعلى في القيادة.
- تأثيرها الرمزي والإعلامي: الطفلة هند رجب أصبحت عنواناً لقصص مماثلة.
ما الذي يمكن أن يحدث لاحقاً؟
- استكمال التحقيقات الحقوقية: قد تستمر “مؤسسة هند رجب الحقوقية” وباقي المنظمات في جمع الأدلة، إجراء مقارنات مع قواعد بيانات الضحايا، والتوسّع في البحث عن مزيد من المتورّطين.
- طلب انتداب دولي/تحقيق من الأمم المتحدة: في حال دعت دول أو منظّمات دولية إلى تفتيش أو تحقيق رسمي، يمكن أن يفتح باباً لتعليق حصانة أو فرض عقوبات.
- الملاحقات الجنائية أو المدنية: قد تُقدم دعاوى جنائية أو مدنية ضد الضبّاط أو الجنود أو قيادات إسرائيلية في دول ثالثة أو أمام محكمة الجنائية الدولية.
- توسيع النقاش العام: الحادثة قد تُستخدم في سياقات أكاديمية، حقوقية، وإعلامية لعرض نمط العنف ضد المدنيين والعائلات في غزة، وبالتالي تعزيز الجهود المناهضة للإفلات من العقاب.
- تداعيات على العلاقات الدولية: دول تحمل الجنود أو الضبّاط المذكورين جنسيتها قد تواجه ضغطاً قانونياً أو شعبياً لإجراء تحقيقات.
قصة الطفلة هند رجب ليست مجرد مأساة عابرة: بل لقطة تكشف عن واقع حرب مستمرّة، عن مشهد يُظهر فاعلين عسكريين واضحين، وعن مدنيين أطفالٍ أُضعفوا تحت أنقاض الصمت الدولي. التحقيق الذي نشره برنامج «ما خفي أعظم» حفّز نقاشاً حقوقياً، أعاد تركيز الضمير الدولي، وفتح نافذة صوب مساءلة أوسع.
إذا ما تابعت الدول، المنظمات الحقوقية، والمجتمع المدني هذا البلاغ كشريانٍ لعدالة لم تُحقّق بعد، فقد تصبح هذه الحادثة – الصغيرة في عدد الأشخاص، الكبيرة في الدلالة – منطلقاً لتغيير فعلي، أما إن غُيّبت بين ملفات الحرب الكثيرة، فإن صوت هند سيبقى رمزاً لمن لم يُمنحوا الفرصة للحديث، ناهيك عن العدالة.
في النهاية، وفي ظلّ هذا المشهد المتفجّر، تظلّ الحصانة مسألة مركزية: هل سيُجرى التحقيق؟ هل سيتحمل أحد مسؤولية؟ وهل سيُعتبر هذا التّحقيق بداية لمسار يؤسّس لوقف الإفلات من العقاب.
