الوقت- أثار تصريح جاريد كوشنر، صهر الرئيس الأمريكي السابق ومستشاره، حول عدم تخصيص أي أموال لإعادة إعمار المناطق التي لا تزال تحت سيطرة حركة حماس في قطاع غزة، ردود فعل واسعة داخل الأوساط السياسية والإعلامية، هذا الموقف، الذي بدا للوهلة الأولى تصريحًا ماليًا، يحمل في عمقه رؤية سياسية وأمنية قد تُعيد رسم مستقبل القطاع وتفرض واقعًا جديدًا على الأرض.
خلال لقاء في تل أبيب، قال كوشنر إن أموال إعادة الإعمار ستُوجّه فقط إلى المناطق التي تسيطر عليها قوات الاحتلال الإسرائيلي، في حين لن تشمل تلك الواقعة تحت سلطة حماس، وأكد أن الهدف هو “إقامة مناطق قابلة للحياة” تخضع لإشراف مؤقت إلى أن تتولى إدارتها جهات “مدنية مستقلة”.
وحسب تقرير لصحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية، فإن هذا الطرح يندرج ضمن خطة أمريكية – إسرائيلية لتقسيم غزة إلى منطقتين: الأولى “آمنة” تُعاد إعمارها وتُدار تحت إشراف الاحتلال، والثانية “محظورة” تُترك بلا دعم ما دامت تحت سلطة حماس.
أبعاد سياسية تحت غطاء إنساني
في جوهرها، تُحوِّل هذه الخطة إعادة الإعمار من استحقاق إنساني إلى أداة ضغط سياسي، إذ تُربط المساعدات بشرط السيطرة العسكرية، فبدلاً من أن تكون مشاريع الإعمار وسيلة لإنهاء المعاناة، تصبح وسيلة لإعادة تشكيل الخريطة الجغرافية والسياسية للقطاع.
ويرى مراقبون أن الاحتلال الإسرائيلي يسعى من خلال هذا الطرح إلى ترسيخ وجود دائم في المناطق التي يعتبرها “آمنة”، مع الاحتفاظ بالسيطرة الأمنية والاقتصادية عليها، بحجة ضمان عدم عودة “التهديدات المسلحة”.
هذا النهج، حسب خبراء، يعيد إنتاج تجربة الضفة الغربية، حيث أدى الفصل الجغرافي والسيطرة الأمنية إلى تفتيت النسيج الفلسطيني، وإضعاف وحدة القرار السياسي، ويخشى محللون من أن يؤدي “الإعمار الانتقائي” في غزة إلى النتيجة ذاتها، وخصوصًا إذا استُخدم لفرض أمر واقع جديد على الأرض يغيّر طبيعة القطاع ومستقبله.
رفض عربي ودولي واتهامات بالعقاب الجماعي
لاقى تصريح كوشنر انتقادات من عدة دول عربية ومنظمات دولية، اعتبرت أن حرمان المدنيين من إعادة الإعمار بسبب الانتماء السياسي المفترض يشكّل عقابًا جماعيًا مخالفًا للقانون الدولي الإنساني.
كما أبدت الأمم المتحدة قلقها من أن يؤدي تقسيم القطاع إلى مناطق “مدعومة” وأخرى “محرومة” إلى تفاقم الأزمة الإنسانية وتعقيد جهود الإغاثة.
في المقابل، دافع بعض المسؤولين الأمريكيين عن التوجه، معتبرين أنه “ضمانة لعدم تحويل أموال المساعدات إلى أذرع عسكرية”، غير أن هذا التبرير، في رأي مراقبين، لا يصمد أمام الواقع الميداني الذي يجعل من المستحيل الفصل الكامل بين السكان والبنية التحتية التي تديرها حماس.
الواقع الإنساني في غزة: إعمار مشروط وسط دمار شامل
تعيش غزة اليوم واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في تاريخها، آلاف المباني مهدّمة، ومئات الآلاف من السكان بلا مأوى، فيما تعاني المستشفيات والمدارس من شلل كامل نتيجة نقص الوقود والمياه والكهرباء.
في ظل هذا المشهد، يبدو من الصعب تطبيق خطة “الإعمار الانتقائي”، إذ إن المناطق المدنية مترابطة ومتداخلة، وأي محاولة لتجزئتها ستخلق مشكلات إنسانية جديدة، بل قد تؤدي إلى تهجير داخلي قسري بحثًا عن الخدمات والمأوى.
تقول منظمات إغاثة إن هذا النهج يهدد بتحويل إعادة الإعمار إلى وسيلة هندسة ديموغرافية جديدة، تُغيّر خريطة القطاع وتُعمّق الانقسام بدلًا من علاجه، فكيف يمكن فصل حيٍّ عن آخر في مدينة صغيرة مكتظة يعاني سكانها جميعًا من الدمار والحصار؟
موقف المقاومة وسكان غزة: وحدة في وجه العقاب
رغم التباينات السياسية داخل القطاع، فإن الغزيين ينظرون إلى تصريحات كوشنر على أنها استهداف جماعي لهم جميعًا، لا لحركة بعينها.
يقول أحد النشطاء المحليين: كل سكان غزة مؤيدون لحماس والمقاومة، ولذلك فإن هذا الطرح لا معنى له.
هذه العبارة التي تتردد كثيرًا بين الناس لا تعني انتماءً تنظيمياً بقدر ما تعبّر عن شعور جمعي بأن المقاومة أصبحت هوية جماعية تمثل كرامة الفلسطيني وصموده في وجه الحصار والعدوان.
ومن هذا المنطلق، فإن أي محاولة لربط الإعمار بالولاء السياسي ستفشل بالضرورة، لأنها تتجاهل حقيقة أن الغزيين، مهما اختلفت توجهاتهم، موحَّدون في رفض الاحتلال وسياساته العقابية.
أبعاد قانونية وأخلاقية
من الناحية القانونية، يُعتبر ربط إعادة الإعمار بالسيطرة العسكرية انتهاكًا للمادة (33) من اتفاقية جنيف الرابعة، التي تحظر العقاب الجماعي في أوقات النزاع.
أما أخلاقيًا، فإن التعامل مع المدنيين كأدوات ضغط سياسي يُقوّض كل مبادئ العدالة والإنسانية.
الاحتلال الإسرائيلي، الذي يدّعي أنه يسعى لإعادة الإعمار “من أجل الاستقرار”، يُصر في الواقع على فرض شروط تجعل من هذا الإعمار وسيلة لإخضاع السكان وإعادة هندسة المجتمع الفلسطيني بما يخدم مصالحه الأمنية.
المستقبل المجهول لغزة
إذا تحولت خطة كوشنر إلى واقع، فستكون غزة أمام سيناريو جديد يقوم على الفصل الجغرافي والاجتماعي بين مناطق “مستفيدة” وأخرى “محرومة”.
النتيجة المتوقعة ستكون مجتمعًا منقسمًا طبقيًا وجغرافيًا، يعيش فيه البعض داخل مناطق مُعاد إعمارها تحت رقابة الاحتلال، بينما يُترك آخرون في أطلال مدنهم المدمّرة.
هذا التمايز سيقوّض أي محاولة لإعادة توحيد القطاع سياسيًا أو اجتماعيًا، وقد يفتح الباب أمام جولات صراع جديدة، بدلًا من تحقيق التهدئة المزعومة.
الإعمار اختبار للضمير العالمي
في النهاية، لا يمكن النظر إلى تصريحات كوشنر بمعزل عن المساعي الهادفة لإعادة صياغة المشهد الفلسطيني بما يتوافق مع مصالح الاحتلال الإسرائيلي.
إن إعادة الإعمار ليست منّة ولا صفقة سياسية، بل حق إنساني أساسي لكل من فقد منزله وأسرته تحت القصف.
إن حرمان سكان غزة من هذا الحق بذريعة الانتماء السياسي يمثل خرقًا صارخًا لكل القوانين والأعراف الدولية، ويكشف مدى تسييس المساعدات الإنسانية في النزاعات المعاصرة.
تبقى الحقيقة أن غزة بكل سكانها جزء واحد لا يتجزأ، وأن أي محاولة لتقسيمها أو إخضاعها لسياسات الإعمار المشروط لن تجلب السلام، بل ستكرّس الألم والمعاناة.
غزة، التي قاومت الحصار والحروب، ستظل رمزًا للصمود والمقاومة، مهما اشتد الحصار أو تغيّرت الخطط والمشاريع.
