الوقت- في مشهد يعيد إلى الأذهان محطات تاريخية مشابهة، اقتحمت قوات الاحتلال الإسرائيلي، يوم السبت الماضي، سفينة "حنظلة" التابعة لـ "ائتلاف أسطول الحرية"، أثناء محاولتها الوصول إلى قطاع غزة المحاصر محمّلة بمساعدات إنسانية للفلسطينيين.
الجيش الإسرائيلي اعترض السفينة في المياه الدولية، واحتجز 21 ناشطاً من جنسيات مختلفة، أظهرت الصور والفيديوهات لحظات مؤثرة، حيث رفع النشطاء أيديهم في مشهد استسلام سلمي، إلا أن الجنود تعاملوا معهم بعنف، شمل الضرب والسحل، وفقاً لشهادات من المنظّمين.
من هو كريس سمولز؟ ولماذا حضوره مهم؟
من بين المعتقلين برز اسم كريس سمولز، الزعيم النقابي الأمريكي الذي حاز شهرة واسعة بعد قيادته لجهود تأسيس أول نقابة عمالية في شركة "أمازون" داخل الولايات المتحدة. سمولز، الذي اشتهر بدفاعه الشرس عن حقوق العمال، وجد نفسه هذه المرة مدافعاً عن قضية إنسانية أكبر: رفع الحصار عن غزة، وتوصيل الغذاء والدواء إلى سكانها المحاصرين.
وجود سمولز على متن السفينة لم يكن مجرد دعم رمزي، بل كان تعبيراً عن التقاء النضالات، بين العدالة الاجتماعية في الداخل الأمريكي والعدالة الإنسانية في فلسطين، تعرضه للضرب والاعتقال من قبل الجيش الإسرائيلي، وفقاً لتقارير أولية، لم يثر فقط استياء النشطاء، بل سلط الضوء على ما وصفه كثيرون بـ "الصمت الإعلامي الأمريكي المُريب".
الإعلام الأمريكي: صمت يثير التساؤلات
رغم أن الحدث جمع بين قضايا ساخنة الحصار على غزة، حرية الملاحة، اعتقال نشطاء سلميين، واعتداء على شخصية أمريكية معروفة فإن معظم وسائل الإعلام الأمريكية الكبرى، من قنوات وصحف، تجاهلت الخبر بالكامل، أو اكتفت بذكره على الهامش دون تغطية معمقة أو تحليل.
هنا تبرز المفارقة: فلو كان كريس سمولز قد تعرّض للضرب من قبل سلطات أي دولة أخرى كالصين أو روسيا أو حتى إحدى الدول الإفريقية لما وفّرت له الصحف الأمريكية الصفحات الأولى والتحليلات المطوّلة، أما حينما يأتي الانتهاك من طرف "إسرائيل"، فإن سياسة الكيل بمكيالين تظهر بوضوح.
هذا التعتيم يطرح أسئلة حقيقية حول مدى استقلالية الإعلام الأمريكي، وقدرته على نقل الحقيقة كاملة دون انتقائية، كما يسلط الضوء على النفوذ السياسي والإعلامي الذي يجعل بعض القضايا "محرّمة التغطية"، حتى وإن تعلق الأمر بحقوق مواطنين أمريكيين أنفسهم.
النشطاء الدوليون والتضامن العالمي مع غزة
يُعد "ائتلاف أسطول الحرية" مبادرة مدنية دولية انطلقت قبل سنوات، بهدف كسر الحصار المفروض على قطاع غزة منذ عام 2007، يضم الائتلاف شخصيات من خلفيات متعددة: نشطاء حقوق إنسان، سياسيين سابقين، مثقفين، وأطباء، اجتمعوا على قاسم إنساني مشترك: الوقوف مع شعب يعاني من حصار خانق تسببت به السياسات الإسرائيلية بدعم دولي ضمني.
السفينة "حنظلة"، التي حملت اسم الشاب الفلسطيني الرمزي في رسوم ناجي العلي، لم تكن أولى المحاولات، سبقها أسطول "مرمرة الزرقاء" في عام 2010، والذي قُتل فيه عشرة نشطاء أتراك على يد الجنود الإسرائيليين في عرض البحر، ما أثار حينها أزمة دبلوماسية كبيرة بين أنقرة وتل أبيب.
ورغم أن "حنظلة" لم تنتهِ بمجزرة كما حصل في 2010، إلا أن ما جرى من انتهاكات واعتقالات أعاد التأكيد على أن "إسرائيل" لا تزال تتعامل مع أي تحدٍ سلمي لسياساتها الاستيطانية والحربية باعتباره تهديداً أمنياً، حتى لو كان حاملو التحدي نشطاء غير مسلحين يحملون الطحين وعلب الأدوية.
المقاومة الفلسطينية: نضال لا ينكسر
في قلب هذا الحدث، تتجلى حقيقة لا يمكن تجاهلها: المقاومة الفلسطينية مستمرة، رغم الحصار، القمع، وموازين القوى غير المتكافئة، فالشعب الفلسطيني، وخاصة في قطاع غزة، يُواجه آلة عسكرية متوحشة، لكنه لم يتخلّ عن حقه في الدفاع عن أرضه وكرامته، بكل الوسائل المشروعة.
سفينة "حنظلة" ليست مجرد مبادرة إنسانية، بل هي جزء من نضال عالمي متكامل يقف إلى جانب مقاومة شعب اختار الصمود بدل الاستسلام، والمشاركة الدولية في هذا المسعى تؤكد أن قضية فلسطين لم تعد محلية، بل أصبحت رمزاً عالمياً للحرية والعدالة.
ردود الفعل: غائبة رسمياً... حاضرة شعبياً
رغم غياب المواقف الرسمية الأمريكية أو الغربية إزاء ما جرى، إلا أن مواقع التواصل الاجتماعي امتلأت بموجة تضامن مع كريس سمولز والنشطاء المعتقلين، وانتشر وسم #FreeChrisSmalls إلى جانب وسم #FreedomFlotilla، وسط دعوات لإعادة النظر في الدعم الأمريكي غير المشروط لإسرائيل، وخاصة في ضوء تصاعد الانتهاكات في غزة.
الحركات العمالية وبعض المنظمات الحقوقية في الولايات المتحدة بدأت بإصدار بيانات تندد بالاعتقال وتطالب بالإفراج الفوري عن سمولز ورفاقه، وهو ما قد يشكّل نقطة ضغط مستقبلية على الإدارة الأمريكية، وخصوصاً مع اقتراب الانتخابات الرئاسية وتصاعد الغضب من سياسة الصمت إزاء انتهاكات "إسرائيل".
في النهاية، حادثة "حنظلة" لم تكن مجرد محاولة إنسانية لإيصال الطعام، بل كانت بمثابة اختبار حقيقي للضمير العالمي، وخصوصاً الإعلام الأمريكي الذي اختار تجاهل الحقيقة.
قد تمرّ الحادثة إعلامياً، لكنها لن تمرّ أخلاقياً، فالعالم يتغيّر، وصوت الشعوب الحرة بدأ يعلو على ضجيج الروايات المنتقاة بعناية، وما جرى في عرض البحر الأبيض المتوسط، قد يتحول إلى لحظة وعي جديدة ليس فقط بشأن فلسطين، بل بشأن من يتحكم في روايتنا للحق والباطل.