الوقت- في الأشهر الأخيرة، شهدت حكومة نتنياهو، التي تضم هيكلًا ائتلافيًا من عدة أحزاب سياسية قومية ودينية، صراعات داخلية واسعة النطاق، ما أدى إلى احتمال انهيار حكومتها الائتلافية وإجراء انتخابات مبكرة في الأراضي المحتلة.
من القضايا التي شغلت حكومة نتنياهو خلال الأشهر القليلة الماضية ودفعتها إلى حافة الانهيار قضية الأحزاب الحريدية ومطالبتها بإقرار قانون "الإعفاء من الخدمة العسكرية الإلزامية".
الأحزاب الحريدية، التي مهدت الطريق لفوز نتنياهو الحاسم في انتخابات 2022 بتحالفها مع حزبه، طرحت عدة شروط في مفاوضاتها مع نتنياهو مقابل الانضمام إلى الائتلاف، أهمها الموافقة الرسمية على قانون إعفاء اليهود الحريديم من الخدمة العسكرية، والذي قبله نتنياهو بجميع الشروط.
ومع ذلك، ورغم تطمينات بنيامين نتنياهو لقادة الحريديم بإقرار هذا القانون، إلا أن جميع جهود الأحزاب الحريدية لإقراره تعثرت على مدار السنوات الثلاث الماضية، حتى أعلنت الأحزاب الحريدية في الأيام الأخيرة انسحابها من حكومة نتنياهو، وخسرت حكومة نتنياهو الائتلافية أغلبيتها، ما جعلها على بُعد خطوة واحدة من الانهيار.
يُعتبر الحريديم جزءًا أساسيًا من الكيان الصهيوني، وتؤثر أنشطتهم السياسية ورؤيتهم للقضايا الاجتماعية والسياسية على الكيان الصهيوني، لذلك، سيتناول هذا التقرير الحريديم وبعض قراراتهم وأفعالهم السياسية، والدوافع التي تنبع منها.
من هم الحريديم؟
الحريديم (اليهود الأرثوذكس المتشددون) هم جماعة من اليهود الأرثوذكس المتشددين الذين يلتزمون التزامًا صارمًا بالتقاليد الدينية اليهودية، تشكلت هذه الجماعة في أوروبا الشرقية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، واستجابةً لليهودية الإصلاحية وحركات الحداثة، شددت على الحفاظ على التقاليد الدينية.
أهم سمات معتقداتهم هي:
التركيز على التوراة والتلمود
تُشكل دراسة التوراة والتلمود والنصوص الدينية جزءًا أساسيًا من حياة الرجال الحريديم، يدرس العديد منهم الدراسات الدينية بدوام كامل في المدارس الدينية اليهودية (اليشيفات)، ويعتبرون ذلك واجبهم الرئيسي كحريديم.
الالتزام الصارم بالشريعة الدينية
يتميز اليهود الحريديم بمعتقداتهم الدينية، بدءًا من الالتزام الصارم بالكشروت (قوانين الطعام والشراب) وصولًا إلى قواعد اللباس الصارمة (مثل القبعات والمعاطف السوداء واللحى الطويلة) والفصل بين الجنسين في التجمعات الدينية.
الانفصال عن الحداثة
يعتقد الحريديم أن الحداثة والثقافة العلمانية قد تُهدد إيمانهم، ولذلك، غالبًا ما يعيشون في أحياء معزولة في المدن التي يعيشون فيها، ويستخدمون تقنيات محدودة، ولا يعتبرون التعليم العلماني ذا أهمية تُذكر.
البنية الاجتماعية المغلقة
عادةً ما تكون زيجات الحريديم مُرتّبة، وعائلاتهم كبيرة (غالبًا من 6 إلى 10 أطفال)، وعلاقاتهم مع غير الحريديم محدودة إلى حد كبير، يعتبر الحريديم أنفسهم الحُماة الحقيقيين لليهودية، ويعتقدون أن أسلوب حياتهم هو الأقرب إلى إرادة الله.
اليهود الحريديم يعتبرون إسرائيل دولة وثنية!
للحريديم (وخاصة جماعات مثل نطوراي كارتا) نظرة مُركّبة للصهيونية والكيان الصهيوني، يصف العديد من اليهود الحريديم الكيان الصهيوني بأنه دولة وثنية!
هناك أسبابٌ متعددةٌ لذلك، أهمها:
المعارضة الدينية للصهيونية
يعتقد كثيرٌ من الحريديم أن قيام دولة يهودية قبل مجيء المسيح (المخلص اليهودي) محرمٌ في النصوص الدينية اليهودية، لذلك، يعتبر جزءٌ كبيرٌ من الحركة الحريدية أن الصهيونية حركةً علمانيةً تُركز على القوة البشرية بدلًا من الله.
حكومةٌ علمانيةٌ بدلًا من دينية
على الرغم من تعريف "إسرائيل" ككيانٍ يهودي، إلا أنها تُحكم وفقًا للقوانين العلمانية وقوانين الدول الغربية، كالقوانين المدنية والسياسية والاجتماعية على جميع المستويات، لدرجة أن المثليين جنسيًا يتمتعون بحريةٍ وحقوقٍ واسعةٍ في الأراضي المحتلة.
لهذا السبب، يعتبر اليهود الحريديم وجود الكيان الصهيوني وحكمه مُخالفًا لليهودية الأصيلة، ويعتقدون أن حكومةً قائمةً كليًا على التوراة هي وحدها التي ستحظى بالشرعية السياسية، وليس الحكومة الحالية (الكيان الصهيوني).
الثقافة المضادة
يتناقض نمط الحياة العصري والعلماني في الكيان الصهيوني (كالحريات الاجتماعية، والخدمة العسكرية الإلزامية للرجال والنساء، والثقافة الغربية) تناقضًا صارخًا مع قيم الحريديم، ولذلك، يصف قادة الحريديم وأتباعهم "إسرائيل" بأنها حكومة "تجديفية"، لأنها بعيدة كل البعد عن تعاليم التوراة.
جماعات محددة، مثل ناتوراي كارتا
تعتقد هذه المجموعات من الحريديم أن وجود "إسرائيل" خطيئة لا تُغتفر، ولذلك تُبدي تعاطفها مع أعداء "إسرائيل" (مثل الفلسطينيين أو إيران) لإثبات معارضتها للصهيونية علنًا.
ومع ذلك، ليس كل الحريديم معادين لـ"إسرائيل"، فبعضهم يتعاون مع الكيان الصهيوني (على سبيل المثال، في القضايا السياسية أو تلقي تمويل للمدارس الدينية)، لكن نفس المجموعة من الحريديم التي تتعاون مع الكيان الصهيوني لا تزال منفصلة ثقافيًا عن المجتمع الصهيوني.
لماذا لا يقبلون الخدمة في جيش الكيان الصهيوني؟
كما ذُكر، فإن نقطة الخلاف الرئيسية بين الأحزاب الحريدية وحكومة نتنياهو هي عدم إقرار قانون إعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية.
لدى معارضة الحريديم للخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي عدة أسباب، منها:
أولوية دراسة التوراة
يعتقد الحريديم أن دراسة التوراة والحفاظ على التقاليد الدينية هي أهم واجبات اليهود لحماية الشعب اليهودي، يشير قادة اليهود الحريديم الدارسون للتوراة إلى أن دراسة التوراة أهم من الخدمة العسكرية، وأنها ضرورية لبقاء اليهودية.
البيئة العلمانية للجيش
يرى الحريديم أن الجيش الإسرائيلي يتمتع ببيئة علمانية لا تُراعى فيها الشرائع الدينية اليهودية (مثل الفصل بين الجنسين، والالتزام الصارم بالطقوس، وتجنب الثقافة الحديثة)، لهذا السبب، يخشى الحريديم أن تُحوِّل الخدمة العسكرية شبابهم عن المسار الديني الذي ينبغي عليهم اتباعه.
معارضة الصهيونية
كما ذُكر، لا يعترف جزء كبير من الحريديم بأي شرعية للصهيونية، وبالتالي، فإن الخدمة في الجيش تعني بالنسبة لهم دعم الدولة الصهيونية، التي لا يعتبرونها شرعية من الناحية الدينية والشريعة اليهودية.
إعفاء تاريخي
منذ التأسيس غير الشرعي للكيان الصهيوني في فلسطين (1948)، منح بن غوريون، أول رئيس وزراء لهذا الكيان، إعفاءً عسكريًا للحريديم، الذين كانوا قليلي العدد آنذاك، ليتمكنوا من مواصلة دراستهم الدينية، وُسِّع نطاق هذا الإعفاء لاحقًا، ولكن مع ازدياد عدد الحريديم (حوالي 13% من إجمالي سكان الكيان الصهيوني)، تسبب هذا الإعفاء في توترات خطيرة بين الحريديم والعلمانيين، حيث يشعر قطاع كبير من الصهاينة بغضب شديد واستياء من رفض الحريديم الخدمة العسكرية.
مخاوف بشأن الهوية
يخشى الحريديم من أن الخدمة العسكرية ستُدمجهم في المجتمع العلماني وتُضعف هويتهم الدينية بشكل كبير.
"إسرائيل" دولة وثنية، لكن عليها أن تدفع ثمن أنشطتنا الدينية!
كما ذُكر، يعتبر العديد من الحريديم الصهيونية ووجود الكيان الصهيوني يفتقران إلى أي شرعية سياسية مستمدة من نصوصهم وآرائهم الدينية، لكن هذا لا يمنعهم من التنازل عن مصالحهم المالية، ورغم اعتبارهم الكيان الصهيوني دولة وثنية، إلا أنهم يؤكدون على التزام الحكومة وقادتها بدعم الحريديم وأنشطتهم الدينية، وضرورة تلبية احتياجاتهم المالية.
تجدر الإشارة إلى أن العديد من الحريديم، بالإضافة إلى رفضهم الخدمة العسكرية، لا يرغبون في العمل أو التوظيف بغرض توليد الدخل، ويدّعون أن الحكومة الصهيونية ملزمة بتوفير طعامهم ومعيشتهم، لأن لديهم مهامًا بالغة الأهمية، مثل دراسة التوراة والأنشطة الدينية.
حتى لو رغب يهودي حريدي في دخول سوق العمل، يجب أن يتسم مكان العمل بمواصفات تُعتبر صارمة للغاية بناءً على المواقف الدينية اليهودية.
إنهم لا يقدمون خدمات، ولا يدفعون ضرائب، ولا يرغبون في الخدمة العسكرية، لكن يجب أن يحصلوا على حصة عادلة وكبيرة من الميزانية السنوية لفلسطين المحتلة.
وقد أدت هذه القضية إلى صراع وتوتر واسع النطاق في الكيان الصهيوني، فبينما يشارك جيش الكيان في حرب غزة منذ ما يقرب من عامين، ويتكبد حتى الآن خسائر فادحة وأضرارًا جسيمة، يطالب اليهود الحريديم بموارد مالية لمواصلة أنشطتهم دون تقديم أدنى خدمة، وهم غير مستعدين للخدمة العسكرية.
لذلك، فإن المجتمع العلماني، الذي يشكل حاليًا جزءًا كبيرًا من مجتمع الكيان الصهيوني ويتعرض لضغوط اقتصادية واجتماعية شديدة نتيجة الحرب، غاضب من تجاوزات اليهود الحريديم التي لا توصف، ويطالب حكومة الكيان باتخاذ موقف جاد ضدها، ومع ذلك، نظرًا لحاجة نتنياهو الماسة إلى أحزاب الحريديم للحفاظ على سلطته، فمن المشكوك فيه أنه سيتخذ إجراءات جادة ضد اليهود الحريديم، لأن إغضابهم يعني سقوط نتنياهو.