الوقت- شهدت محافظة السويداء السورية خلال الأسابيع الماضية موجة غير مسبوقة من العنف، إثر اشتباكات دامية بين فصائل مسلحة محلية من الطائفة الدرزية ومسلحين من العشائر البدوية، هذا التصعيد، الذي اتخذ طابعاً أهلياً في بدايته، سرعان ما تحوّل إلى أزمة إقليمية، مع تدخل القوات الحكومية ومحاولة فرض السيطرة على المدينة، ثم تدخل "إسرائيل" بشكل مفاجئ عبر قصف مواقع للجيش السوري بحجة حماية الطائفة الدرزية.
هذه التحولات الميدانية أدخلت أطرافاً إقليمية عدّة إلى المشهد، من بينها تركيا، التي لم تُخفِ قلقها من التدخل الإسرائيلي المتزايد في الجنوب السوري، كما عبرت عن مخاوفها من احتمال تمدد التوتر نحو مناطق أخرى تهمها استراتيجياً، مثل درعا والجولان وشمال السويداء، وهي مناطق مجاورة لنفوذ "قوات سوريا الديمقراطية" التي تعتبرها أنقرة تهديداً أمنياً.
أنقرة وتل أبيب: علاقة مضطربة تتجدد في الأزمات
العلاقة بين تركيا و"إسرائيل" كانت دائماً محكومة بالتوتر، لكنها شهدت منذ بداية عام 2025 جموداً دبلوماسياً بسبب الموقف التركي من الحرب الإسرائيلية على غزة، والتي وصفتها أنقرة حينها بـ "الإبادة الجماعية"، إلا أن التطورات الأخيرة في السويداء أوجدت ضرورة تنسيقية فرضتها الجغرافيا والمصالح المشتركة.
فبينما كثّفت "إسرائيل" ضرباتها الجوية ضد مواقع الجيش السوري، كانت تركيا تراقب المشهد عن كثب، إذ تخشى من تداعيات غياب الدولة في السويداء، ومن احتمال ظهور كيانات مسلحة مستقلة قد تتحالف مع قوات كردية أو جهات، هذه المخاوف دفعت أنقرة إلى الدخول في تنسيق أمني غير معلن مع "إسرائيل"، يتعلّق بمراقبة الوضع الميداني، ومنع تحوّله إلى تهديد مباشر لأي من الطرفين.
وقف إطلاق النار: دبلوماسية الضرورة
تزامناً مع التدخل الإسرائيلي، تحركت قنوات دبلوماسية إقليمية ودولية من أجل التوصل إلى تهدئة، وهو ما أسفر عن اتفاق هش لوقف إطلاق النار بين الحكومة السورية والفصائل المحلية في السويداء، بدعم أمريكي ورضا تركي–إسرائيلي ضمني.
ورغم أن تركيا لم تكن طرفاً معلناً في الاتفاق، إلا أن مصادر دبلوماسية تشير إلى أن مسؤولين أتراكاً رفيعي المستوى أجروا اتصالات مكوكية مع أطراف متعددة لتثبيت الهدنة، خوفاً من تفاقم الوضع في الجنوب وتأثيره على التوازن الأمني في عموم سوريا، وقد ساهم هذا الدور في تجنب تصعيد شامل، لكنه لم يُلغِ الخلافات الجذرية بين أنقرة وتل أبيب، بل كشفها بشكل أوضح.
الدروز في قلب الصراع
تبرر "إسرائيل" تدخلها العسكري في السويداء بحماية الطائفة الدرزية، التي تمثل أقلية مؤثرة في جنوب سوريا، وفي الوقت ذاته تشكل جزءاً من المجتمع الإسرائيلي، الأمر الذي يمنحها حساسية خاصة لدى صناع القرار في تل أبيب، لكن أنقرة ترى أن هذا الخطاب يخفي نوايا توسعية تهدف إلى إضعاف الدولة السورية، وإقامة "مناطق عازلة" غير رسمية تخدم المصالح الإسرائيلية الأمنية.
من جانبها، تحذر تركيا من أن أي تفكيك لوحدة الأراضي السورية، سواء بحجة حماية الأقليات أو محاربة الإرهاب، سيفتح الباب أمام مشاريع انفصالية خطيرة، في مقدمتها المشروع الكردي، الذي تعتبره أنقرة تهديداً وجودياً.
هل من مواجهة محتملة بين تركيا و"إسرائيل"؟
ورغم حساسية الوضع، فإن احتمالات اندلاع مواجهة مباشرة بين تركيا و"إسرائيل" تبقى ضئيلة في الوقت الراهن، كلا الطرفين يدرك أن الصدام المباشر لا يخدم مصالحه، وخاصة في ظل تداخلهما مع الولايات المتحدة، التي تلعب دور الوسيط في تهدئة الصراعات داخل سوريا.
لكن ذلك لا يمنع من بروز توترات غير مباشرة، سواء عبر التصريحات السياسية المتبادلة، أو عبر دعم أطراف متعارضة على الأرض، فبينما تميل "إسرائيل" إلى تأييد كيانات مستقلة في الجنوب السوري ترتبط بعلاقات مرنة معها، تفضّل تركيا إعادة تمكين الدولة السورية ضمن حدود محددة، بشرط تحجيم النفوذ الكردي.
مصالح متقاطعة... ومخاوف متبادلة
السويداء تحوّلت إلى نموذج مصغّر لصراع المصالح في سوريا، فبينما تسعى "إسرائيل" إلى ترسيخ موطئ قدم لها في جنوب البلاد، تعمل تركيا على ضبط الميدان بما يخدم أمنها القومي ويمنع تمدد القوى التي تناصبها العداء، ورغم التناقض في الأهداف، فإن الطرفين يجدان نفسيهما مضطرين لتبادل المعلومات الأمنية والتنسيق الميداني، حتى وإن بشكل غير مباشر.
ومن الواضح أن كلا الطرفين يسعى إلى تجنّب التصعيد، مع استمرار التنافس السياسي والإقليمي، وهذا ما يجعل العلاقة بين أنقرة وتل أبيب علاقة مركّبة، تتأرجح بين التصعيد الإعلامي والتنسيق الاستخباراتي، وفقاً لمقتضيات المرحلة.
علاقة بين الاحتكاك والتعاون المؤقت
في المحصّلة، فإن أحداث السويداء الأخيرة شكّلت اختباراً جديداً لطبيعة العلاقة بين تركيا و"إسرائيل"، فقد أظهرت هذه الأحداث أن الخصومة السياسية لا تمنع التنسيق الأمني، وأن المصالح المؤقتة قد تدفع حتى الأطراف المتنافرة إلى العمل سوياً.
لكن هذا التعاون يظل هشاً، ومهدداً في أي لحظة بالانهيار إذا ما تجاوز أحد الطرفين الخطوط الحمراء للطرف الآخر، فتركيا لا يمكن أن تقبل بتوسّع إسرائيلي في الجنوب السوري، كما أن "إسرائيل" لا تثق بنوايا تركيا تجاه الجماعات الكردية وملف النفوذ في الشمال السوري.
وعليه، فإن العلاقات بين أنقرة وتل أبيب ستظلّ مرهونة بتوازنات دقيقة، تحفظ حداً أدنى من التعاون، لكنها لا تمنع احتمالات الانفجار، وخاصة في منطقة تتصارع فيها المشاريع والمصالح وتغيب عنها الحلول الشاملة.