الوقت- في خطوة تعكس التوجه الاستراتيجي الإسرائيلي في أعقاب حرب غزة المستمرة منذ شهور، صرح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأن إسرائيل تعمل مع الولايات المتحدة "لإيجاد دول تمنح الفلسطينيين مستقبلاً أفضل".
هذه التصريحات، التي جاءت في خضم تحركات دبلوماسية مكثفة على أكثر من صعيد، أثارت تساؤلات عميقة حول طبيعة المرحلة المقبلة: هل نحن أمام مشروع إقليمي لإعادة ترتيب الأوراق الفلسطينية؟ أم أنها محاولة لتجاوز الملف الفلسطيني لصالح ترتيبات إقليمية أوسع؟
تزامنت تصريحات نتنياهو مع تحركات أمريكية واضحة، أكدت عليها المتحدثة باسم الرئاسة الأمريكية كارولاين ليفيت، التي قالت إن أولوية الرئيس ترامب في الشرق الأوسط هي "إنهاء الحرب في غزة وضمان عودة جميع الرهائن". في الوقت ذاته، يستعد المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف لزيارة الدوحة، ما يعكس الدور الحيوي الذي تلعبه قطر في المفاوضات بين إسرائيل وحماس، خصوصاً في ملف التهدئة وتبادل الأسرى
في هذا السياق، نلقي الضوء على التصريحات الأخيرة، اتفاقيات التطبيع، الموقف الفلسطيني، ومستقبل الصراع في ضوء التحالفات الجديدة.
تصريحات نتنياهو: واقع أم مناورة؟
قال نتنياهو: "سنعمل مع الولايات المتحدة لإيجاد دول تمنح الفلسطينيين مستقبلاً أفضل"، مضيفاً أن "أولئك الذين لا يريدون تدميرنا سنسعى للوصول معهم إلى سلام، بشرط بقاء الأمن والقوة السيادية في أيدينا دائماً". تحمل هذه التصريحات عدة دلالات
- تجاوز فكرة الدولة الفلسطينية الكاملة: يصر نتنياهو على أن الحل لن يكون بإقامة "دولة كاملة" للفلسطينيين، وهو موقف يتماشى مع رؤيته القديمة القائمة على الحكم الذاتي المحدود أو الكيانات المنزوعة السلاح
- البحث عن حل إقليمي لا مركزي: الإشارة إلى "دول تمنح الفلسطينيين مستقبلاً أفضل" تعني عملياً أن الكيان الإسرائيلي يسعى إلى توزيع المسؤولية عن الفلسطينيين على أطراف إقليمية، كالأردن، مصر، وربما الدول الخلیجیه.
- التحالف مع أمريكا كغطاء دولي: التنسيق مع الولايات المتحدة يمنح الكيان الإسرائيلي مظلة دبلوماسية قوية لطرح أفكار غير تقليدية قد تلقى قبولاً في بعض العواصم العربية
اتفاقيات التطبيع: من "إبراهيم" إلى حسابات ما بعد غزة
في عام 2020، رعت الولايات المتحدة سلسلة اتفاقيات تطبيع عُرفت باسم "اتفاقيات أبراهام"، شملت الإمارات، البحرين، المغرب، والسودان. وقد رحّب الكيان الإسرائيلي بهذه الاتفاقيات كخطوة تاريخية لكسر العزلة الإقليمية والتقارب مع العالم العربي
أهداف الكيان الإسرائيلي من التطبيع
- تفكيك الإجماع العربي حول فلسطين: ساهمت هذه الاتفاقيات في كسر الإجماع العربي الذي كان يشترط إنهاء الاحتلال قبل أي علاقات دبلوماسية مع الكيان الإسرائيلي
- تحسين الصورة الدولية: عزز الكيان الإسرائيلي من شرعيته في المحافل الدولية، خاصة مع دعم الدول المطبعة لها في ملفات اقتصادية وأمنية
- التعاون الأمني والتكنولوجي: شملت الاتفاقيات صفقات أمنية وتجارية ضخمة، خاصة في مجال الدفاع والطاقة والتكنولوجيا
أين وصلت الأمور بعد الحرب على غزة؟
أدت الحرب في غزة، التي اندلعت في أكتوبر 2023 إثر عملية "طوفان الأقصى"، إلى زعزعة صورة الكيان الإسرائيلي أمام الرأي العام العالمي والعربي. عدد كبير من الدول المطبعة، مثل الإمارات والمغرب، عبّرت عن "قلقها العميق" وأوقفت بعض أشكال التعاون العلني مؤقتاً. لكن رغم التوتر، لم تُلغِ أي من هذه الدول علاقاتها رسمياً، ما يشير إلى أن التطبيع بات أكثر رسوخاً مما يُعتقد
الموقف الفلسطيني: بين المقاومة والتشتت
الفلسطينيون يعيشون اليوم واحدة من أكثر اللحظات حساسية في تاريخ قضيتهم
في غزة: يعاني السكان من كارثة إنسانية غير مسبوقة جراء الحرب. لا تزال حماس تحتفظ ببعض نفوذها رغم الخسائر، وتسعى لتثبيت اتفاق تهدئة طويل الأمد. الضغط الشعبي يتزايد باتجاه حلول مستدامة وليس مجرد "هدنة".
في الضفة الغربية: السلطة الفلسطينية بقيادة محمود عباس تبدو ضعيفة وعاجزة عن التأثير الفعلي. المستوطنات تتوسع بوتيرة متسارعة. تزايد الاحتكاكات بين الفلسطينيين والجيش الإسرائيلي.
في الشتات: الفلسطينيون في الشتات يعانون من تهميش سياسي متزايد. هناك مخاوف حقيقية من مشاريع تهجير أو إعادة توطين للفلسطينيين خارج مناطقهم الأصلية، خاصة في سيناء أو الأردن
المبادرات الأمريكية: بين الواقعية والطموح
تعهد ترامب أخيرا بإنهاء حرب غزة والتوصل إلى "اتفاق سلام شامل". ويعتقد أن لديه "فرصة جيدة" لتحقيق تقدم هذا الأسبوع، خاصة مع تحركات مبعوثه إلى الدوحة. لكن:
ترامب لا يملك حتى الآن خطة مفصلة أو معلنة، باستثناء تصريحاته العامة. من غير الواضح مدى تجاوب الأطراف الفلسطينية، خاصة حماس، مع مبادراته. حلفاء ترامب الإقليميون، كالسعودية والإمارات، يفضلون حلولاً تحفظ استقرارهم الداخلي دون انخراط مباشر
الكيان الإسرائيلي و"الحل الإقليمي": البدائل المطروحة
يعمل الكيان الإسرائيلي على ثلاثة مسارات مترابطة
- ربط مستقبل غزة بدول الجوار: الحديث عن دور مصري أمني وإغاثي. اقتراحات غير معلنة حول إشراف عربي مؤقت على القطاع
- محاولة إضعاف حماس دون إسقاطها بالكامل: تحييد الجناح العسكري. الإبقاء على إدارة مدنية تضمن الهدوء مقابل المساعدات
- تشجيع الهجرة الفلسطينية: هناك تقارير عن تشجيع فلسطينيي غزة على مغادرة القطاع، عبر تسهيلات لمغادرتهم إلى دول في أمريكا اللاتينية وأوروبا
إلى أين تتجه الأمور؟
الواقع: الكيان الإسرائيلي يحاول فرض أمر واقع جديد في غزة والضفة، مدعومة بتحالفات إقليمية غير مسبوقة
الفلسطينيون: ما بين مقاومة مشروعة، ومؤسسات سياسية عاجزة، وصراع داخلي على التمثيل والشرعية.
أمريكا: تواصل واشنطن رعاية مبادرات هدفها الأساسي حماية مصالحها وحلفائها، لا بالضرورة إنصاف الفلسطينيين
المستقبل: يتوقف على قدرة الفلسطينيين على إعادة توحيد صفوفهم، والمجتمع الدولي على فرض حل عادل يحترم حقوقهم، وإرادة الدول العربية في جعل التطبيع مشروطاً بحل عادل
تصريحات نتنياهو، وإن بدت للبعض كخطوة نحو السلام، فهي تعكس توجهًا نحو حل غير عادل يتجاوز المطالب الأساسية للفلسطينيين. أما التطبيع، فقد أصبح واقعاً، لكنه لا يملك شرعية شعبية في الشارع العربي ما لم يُرافقه إنهاء الاحتلال وتحقيق العدالة. إن أي "مستقبل أفضل للفلسطينيين" يجب أن ينبع من احترام حقوقهم الوطنية، لا من توزيعهم كلاجئين في دول أخرى، أو تجزئة قضيتهم لمصلحة أمن الكيان الإسرائيلي وتحالفاته. فالتاريخ أثبت أن السلام القائم على القوة فقط لا يدوم، وإنما السلام العادل هو الوحيد القادر على الصمود.