الوقت- منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة في الـ 7 من أكتوبر 2023، لم تقتصر الجرائم والانتهاكات على الغارات الجوية أو العمليات البرية، بل امتدت إلى تجويع سكان القطاع ومنع وصول المساعدات الإنسانية، تحولت السياسة الإسرائيلية من مجرد قصف وتدمير البنى التحتية إلى استخدام "سلاح الجوع" كوسيلة لإخضاع السكان، والضغط على المقاومة، وتغيير الواقع الديمغرافي في غزة، فقد أصبحت المجاعة الممنهجة، في نظر كثير من المراقبين والخبراء، أداة إبادة بطيئة، وانتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني.
التحكم في المساعدات: سلاح جديد بوجه قديم
منذ الأيام الأولى للحرب، فرض الکیان الإسرائيلي حصارًا خانقًا على قطاع غزة، وأغلق معبري رفح وكرم أبو سالم معظم الوقت، ومنع دخول الشاحنات التي تنقل الغذاء، الماء، الوقود، والدواء، وعلى الرغم من مناشدات الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية الدولية، بقي الكيان الإسرائيلي يمارس سياسة "التنقيط" في إدخال المساعدات، ما جعله يتحكم بشكل كامل في حياة أكثر من مليوني فلسطيني داخل القطاع المحاصر.
وقد كشف العديد من التقارير أن الكيان الإسرائيلي سمح بدخول شاحنات مساعدات فقط عبر نقاط تفتيشها، وبعد عمليات تفتيش طويلة، وأحيانًا عبثية، تؤدي إلى تلف المواد الغذائية أو تأخير وصولها أيامًا طويلة، ما يجعلها غير صالحة للاستعمال، وتذهب بعض التقديرات إلى أن أقل من 15% من حاجات سكان غزة الغذائية يتم تلبيتها عبر المساعدات التي تدخل حاليًا.
استراتيجية التجويع: قرار سياسي مدروس
التجويع في غزة لم يكن نتيجة ثانوية للحرب، بل استراتيجية واضحة أعلنتها شخصيات إسرائيلية في أكثر من مناسبة، ففي تصريح شهير لوزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت في أكتوبر 2023، قال بوضوح: "لن يدخل كهرباء، ولا طعام، ولا ماء إلى غزة، نقاتل حيوانات بشرية وسنتعامل معهم على هذا الأساس"، هذا التصريح ليس مجرد انفعال لحظة، بل يعكس سياسة عامة تهدف إلى سحق البنية المجتمعية في غزة، ودفع السكان إلى الانهيار الكامل.
كما كشفت وسائل إعلام غربية، مثل صحيفة "واشنطن بوست" و"نيويورك تايمز"، أن مسؤولين إسرائيليين ناقشوا بوضوح في اجتماعات مغلقة استخدام سياسة التجويع للضغط على حماس، وإجبارها على تقديم تنازلات، أو حتى لإشعال التمرد الشعبي ضدها، هذه السياسة تندرج ضمن مفهوم العقاب الجماعي، الذي يُعد جريمة حرب وفق اتفاقيات جنيف.
أرقام مرعبة: المجاعة في أرقام
حسب برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة، فإن 100% من سكان غزة يعانون من انعدام الأمن الغذائي، في واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم، وتشير التقديرات إلى أن أكثر من 500 ألف شخص – أي ربع سكان غزة – يعانون من مجاعة حقيقية، وهناك مؤشرات قوية على ارتفاع معدلات الوفاة بسبب الجوع، وخصوصًا بين الأطفال وكبار السن.
وقد وثقت منظمات مثل "أطباء بلا حدود" و"أنقذوا الطفولة" (Save the Children) حالات وفاة لأطفال رضع بسبب نقص الحليب وسوء التغذية، وفي مشاهد صادمة نقلتها الصحافة العالمية، شوهدت أمهات يغلين الماء مع الأعشاب لتقديمها كطعام لأطفالهن، بسبب غياب أي مصدر غذائي حقيقي.
منع المساعدات واستهداف العاملين في الإغاثة
لم يكتفِ الكيان الإسرائيلي بمنع المساعدات، بل استهدف بشكل مباشر فرق الإغاثة التي تحاول إيصال الطعام، في أبريل 2024، قتلت القوات الإسرائيلية سبعة من موظفي منظمة "وورلد سنترال كيتشن" (World Central Kitchen) أثناء قيامهم بتوزيع وجبات الطعام على المحتاجين، هذا الهجوم أثار غضبًا عالميًا، لكن لم يُعقبه تغيير فعلي في السياسة الإسرائيلية.
كما استهدفت القوات الإسرائيلية مستودعات المساعدات في شمال غزة وجنوبها، ما تسبب في تدمير آلاف الأطنان من الأغذية والأدوية، وتكررت مشاهد إطلاق النار على سكان غزاويين كانوا يحاولون الوصول إلى شاحنات مساعدات محدودة، في مناطق مثل "الكوستل" و"نقطة نيتساريم"، وسقط العشرات قتلى في ما عُرف بمجزرة طابور الخبز.
الازدواجية الدولية وصمت المجتمع الدولي
المثير للدهشة والقلق أن هذه الجرائم تُرتكب تحت نظر وصمت المجتمع الدولي، بل أحيانًا بدعمه الضمني، الولايات المتحدة، التي زعمت أنها تحاول تسهيل إدخال المساعدات، لم تضغط جديًا على الكيان الإسرائيلي لفتح المعابر أو وقف سياسة التجويع، والأسوأ من ذلك، أن بعض الدول الأوروبية أوقفت تمويلها لوكالة الأونروا بذريعة مزاعم بمشاركة بعض موظفيها في هجمات الـ 7 من أكتوبر، رغم أن هذه المنظمة كانت الجهة الأهم في توزيع الغذاء والتعليم في غزة.
وقد حذرت أكثر من 30 منظمة دولية من أن استمرار هذه السياسة سيؤدي إلى مجاعة شاملة وانهيار النظام الصحي بالكامل، ما قد يرقى إلى "إبادة جماعية صامتة".
أبعاد سياسية واستراتيجية: أكثر من مجرد حصار
استخدام سلاح التجويع لا ينفصل عن الأهداف السياسية والعسكرية الإسرائيلية، تسعى حكومة نتنياهو إلى تغيير الواقع الديمغرافي في غزة، ودفع السكان إلى الهجرة الجماعية، وخصوصًا نحو سيناء المصرية، ضمن ما يُعرف بخطة "التهجير الطوعي"، والتجويع هو إحدى الأدوات الأساسية لتحقيق هذا الهدف، عبر دفع الناس إلى الاستسلام، أو الموت، أو الرحيل.
كما يهدف الكيان الإسرائيلي إلى إنهاء حكم حماس من خلال خلق ضغط شعبي داخلي عبر الحصار والتجويع، وهي سياسة سبق أن استخدمتها في حصار مخيم جنين، وبلدات في الضفة الغربية، لكنها تُطبق الآن على نطاق واسع وبوحشية أكبر في غزة.
ما يجري في غزة ليس مجرد أزمة إنسانية، بل جريمة ممنهجة يستخدم فيها الكيان الإسرائيلي الغذاء كسلاح حرب، وتُمارس فيها سياسة الإبادة البطيئة تحت أنظار العالم، إن المجتمع الدولي، والأمم المتحدة، والدول العربية والإسلامية، مطالبون اليوم بتحرك حقيقي وفوري، لا يقتصر على الإدانات، بل يشمل ضغوطًا سياسية واقتصادية على الكيان الإسرائيلي، وفتح ممرات آمنة للمساعدات، ومحاكمة من تورطوا في هذه الجرائم أمام محكمة الجنايات الدولية.
المجاعة في غزة ليست قضاءً وقدرًا، بل سياسة مقصودة تستحق الرد الحاسم من كل القوى الحرة في العالم، فالتاريخ لن يرحم المتفرجين، كما لن ينسى أن أطفال غزة ماتوا جوعًا في زمن الوفرة العالمية، بينما كانت القيم الإنسانية تُباع في مزادات السياسة المزدوجة.