الوقت - مؤخراً، أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي عن مرحلة جديدة من عملياته العسكرية في قطاع غزة، حملت اسم "عربات جدعون"، لم تكن هذه التسمية مجرد إجراء شكلي، بل سرعان ما أثارت جدلاً واسعاً في الأوساط الإعلامية الإسرائيلية، حيث رأى محللون أنّ توظيف الرموز التوراتية لا يعدو كونه أداةً دعائيةً متقنةً، تهدف إلى تبرير العنف العسكري وتوطيد أجندات اليمين المتطرف، مستندةً إلى إرثٍ ديني يضفي على الحرب هالةً من القداسة المزعومة.
رمزية الدين والحرب في تسميات العمليات العسكرية
في جيش الاحتلال الإسرائيلي، هناك وحدة متخصصة تُعنى بصياغة أسماء العمليات العسكرية، فتنتقي بعناية تسميات ذات جذور دينية وتاريخية، تُضفي على المعارك هويةً رمزيةً، وتترك في نفوس اليهود، سواء داخل "إسرائيل" أو خارجها، أثراً نفسياً عميقاً، يعزّز ارتباطهم بالمعركة ويشرعن أهدافها.
وفق الرواية التوراتية، يُعدّ "جدعون بن يوآش" أحد أبرز الشخصيات الأسطورية المنتمية إلى قبيلة منسى، عاش في منطقة عفرا في الضفة الغربية، واختير من قبل "ملاك الرب" ليقود بني إسرائيل في زمنٍ كانوا فيه مختبئين في الكهوف خشية المدينيين، أعدائهم التاريخيين، ورغم قلة عدد جنوده، الذين لم يتجاوزوا ثلاثمئة مقاتل، تمكن جدعون بفضل حنكته العسكرية وتكتيكاته المبتكرة، من تحقيق نصرٍ مبين على المدينيين، الذين اشتهروا باستخدام الجمال في المعارك.
كلمة "جدعون" في اللغة العبرية القديمة تعني "المحارب"، ويُنظر إليه في العقيدة اليهودية كرمزٍ للمسيح الموعود، الذي سيعيد بناء "الهيكل الثالث"، غير أنّ هذا الاسم، الذي كان في الماضي يُلهب الخيال الديني، بات اليوم لصيقاً بعمليات عسكرية يصفها الكثيرون بالفاجعة الإنسانية والسياسية، ما أثار موجةً من المقارنات الساخرة بين "جدعون التاريخي" و"جدعون المعاصر".
استخدام اسم جدعون في العمليات العسكرية ليس وليد اللحظة، بل له جذور تمتد إلى عام 1948، حين أطلقت "إسرائيل" اسم "عملية جدعون" على حملتها العسكرية لاحتلال قرية بيسان وتهجير سكانها الفلسطينيين، وفي إطار هذه التسمية ذات الرمزية الدينية، يُشبّه الفلسطينيون بالمدينيين – أعداء بني إسرائيل التاريخيين – بما يخدم رؤيةً توراتيةً تسعى إلى تبرير بناء "الهيكل الثالث" في القدس، باعتباره ضرورةً دينيةً وسياسيةً لضمان بقاء اليهود في "الأرض الموعودة".
التسميات التوراتية كأداة سياسية وعسكرية
لطالما لجأت "إسرائيل" إلى توظيف الأسماء المستوحاة من النصوص التوراتية في عملياتها العسكرية، ومن أبرز الأمثلة على ذلك:
"الجرف الصامد": الاسم الذي أُطلق على العدوان الإسرائيلي الذي استمر واحداً وخمسين يوماً ضد قطاع غزة عام 2014، وهو مأخوذ من سفر دانيال، ويرمز إلى القوة الإلهية التي لا تُقهر.
"الطوفان": الاسم الذي اختير لعملية اغتيال الشيخ أحمد ياسين، مؤسس حركة حماس، عام 2004، يستمد هذا الاسم رمزيته من الطوفان الإلهي الوارد في سفر المزامير، والذي يُعد أداةً لعقاب أعداء "إسرائيل".
"داوود الملك": الاسم الذي أُطلق على الهجوم الإسرائيلي على غزة في عام 2023، والذي هدف إلى تحرير الأسرى والقضاء التام على المقاومة الفلسطينية، استُلهمت هذه التسمية من قصة فتح القدس على يد النبي داوود، وهو حدث يُعدّ من أبرز انتصارات الدولة اليهودية في سرديتها التاريخية، وقد كشفت هذه العملية عن نوايا إسرائيلية بعيدة المدى، تتجلى في السعي إلى شنّ حرب شاملة تهدف إلى تغيير معادلات الصراع الفلسطيني، واحتلال قطاع غزة بالكامل.
الجدل السياسي حول هذه التسمية
أثارت تسمية المرحلة الجديدة من العمليات العسكرية ضد غزة عاصفةً من الجدل الإعلامي والسياسي، إذ ارتبطت شخصية جدعون التوراتية، رمز الخلاص والتحرر، بشخصية جدعون ساعر، وزير الخارجية في حكومة الاحتلال الإسرائيلي، الذي يحمل الاسم ذاته، وقد رأى المعارضون في هذا التشابه إسقاطاً ساخراً، حيث إن جدعون التوراتي كان رمزاً للنصر والإنقاذ، بينما يُتهم ساعر، أحد أقطاب اليمين المتطرف، بالسعي لتحقيق مصالحه السياسية المرتبطة ببنيامين نتنياهو، متجاهلاً تطلعات سكان الأراضي المحتلة الذين خرجوا في الأشهر الأخيرة بمظاهراتٍ حاشدة ومتواصلة تطالب بإبرام اتفاق مع حركة حماس والإفراج السريع عن الأسرى المتبقين، وعلى النقيض من هذه المطالب الشعبية، يبدو أن حكومة نتنياهو تفضّل الحفاظ على بقائها السياسي على حساب أرواح الأسرى ومعاناتهم.
وفي خضم هذا الجدل، انتشرت موجة من السخرية والانتقاد اللاذع عبر وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، حيث ظهرت رسوم كاريكاتورية تُظهر جدعون ساعر، بدلاً من ركوبه العربة الحربية وفق الرواية التوراتية البطولية، وهو يمتطي دراجةً صغيرةً للأطفال أو يقود عربة أطفال، في مشهدٍ يجسّد تناقضاً ساخراً بين رمزية الاسم وحقيقة الشخصية.
النمط المتكرر في التسميات الإسرائيلية
لقد دأبت "إسرائيل" على توظيف أسماء مستوحاة من النصوص التوراتية في عملياتها العسكرية، مستهدفةً بذلك تحقيق ثلاثة أهداف استراتيجية عميقة الأثر: أولاً، إضفاء قداسة دينية على الأعمال العسكرية عبر ربطها بالسرديات التوراتية، ما يمنحها طابعاً إلهياً يُعزز شرعيتها؛ ثانياً، تصوير الفلسطينيين كامتدادٍ لأعداء بني إسرائيل التاريخيين، كعماليق والمدينيين، في محاولة لتبرير العنف ضدهم باعتباره تصدياً لـ"تهديدٍ أبديٍّ قديم"؛ وثالثاً، إقناع الرأي العام اليهودي بأن هذه الحروب ليست مجرد صراعات سياسية عابرة، بل امتدادٌ لمعجزات توراتية، وجزءٌ من القدر الإلهي الذي يُكرّس وجود "شعب إسرائيل" في الأرض الموعودة.
هذا النمط في التسميات لا يقتصر على استهداف سكان الأراضي المحتلة، بل يتعداهم إلى اليهود في الشتات الذين تعتمد "إسرائيل" على دعمهم المالي والإعلامي، وإلى المسيحيين الإنجيليين، الذين يرون في وجود اليهود في الأراضي المحتلة تحقيقاً لنبوءة دينية تمهّد لعودة المسيح (عليه السلام).
ومن خلال تحريف السرديات التاريخية والدينية، تسعى "إسرائيل" إلى تقديم حروبها وأفعالها كتنفيذٍ للإرادة الإلهية، وهو ما يُمهّد الطريق لاستمرار الاحتلال، وتعميق سياسات القمع، وتوسيع رقعة الاستيطان.
أبعاد التسمية وأهدافها الخفية
إن إطلاق اسم "عربات جدعون" على العمليات العسكرية ضد غزة ليس مجرد خطوة دعائية، بل هو جزءٌ من استراتيجية شاملة تسعى إلى تغيير الواقع في غزة تغييراً جذرياً، وصولاً إلى تدميرها بالكامل، واقتلاع سكانها عبر موجات تهجيرٍ قسريٍّ تُلغي وجودهم التاريخي في أرضهم، ومن خلال ربط الحرب بالسرديات الدينية التوراتية تهدف إلى إضفاء الشرعية على العنف في نظر الرأي العام اليهودي، وإكسابه طابعاً مقدساً يعزّز التوجهات السياسية والعسكرية للصهيونية.