الوقت- في واحدة من أقسى الإدانات الصادرة عن مسؤول أممي منذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وصفت فرانشيسكا ألبانيزي، المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، الوضع في غزة بأنه "مجزرة ممنهجة تهدف إلى محو الفلسطينيين من الوجود"، مؤكدة أن الكيان الإسرائيلي يتعمد قتل الأطفال وتجويع السكان ويفرض حصارًا خانقًا يؤدي إلى كارثة إنسانية متسارعة.
تصريحات ألبانيزي التي جاءت عبر منصة "إكس" (تويتر سابقًا) وفي مقابلة متلفزة مع قناة الجزيرة، أعادت تسليط الضوء على المأساة غير المسبوقة التي تعيشها غزة منذ أكتوبر 2023، حيث قتل عشرات الآلاف، معظمهم من النساء والأطفال، ودُمرت البنية التحتية الصحية والغذائية، وسط صمت دولي تُفسّره المقررة الأممية بأنه "تواطؤ واضح مع الاحتلال".
المقارنة مع النازية: تحذير من تكرار الفظائع
في تعليقها الصادم على استشهاد فلسطيني من ذوي الإعاقة جوعاً في القطاع، كتبت ألبانيزي:
"جيلنا تربّى على أن النازية كانت الشر الأعظم.. واليوم هناك الكيان الإسرائيلي الذي يتعمد تجويع الملايين ويطلق النار على الأطفال".
هذه المقارنة التي تحمل في طياتها دلالة قانونية وأخلاقية خطيرة، تُظهر أن ما يجري في غزة تجاوز حدود الانتهاكات التقليدية إلى جريمة "إبادة جماعية" وفق معايير القانون الدولي، ولا سيما اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948.
ألبانيزي، وهي خبيرة قانونية بارزة، لم تكن الوحيدة التي استخدمت هذا التوصيف، إذ سبق أن تحدثت محكمة العدل الدولية في لاهاي عن احتمال وجود "نية إبادة" لدى الكيان الإسرائيلي في عدوانه على القطاع، وطلبت اتخاذ تدابير مؤقتة لحماية المدنيين.
"غزة مقبرة الأطفال": المجاعة تفتك بالصغار
في مقابلة مع قناة الجزيرة، قالت ألبانيزي:
"لا توجد كلمات تصف ما يحدث في غزة، فالمجاعة وصلت ذروتها والمدينة تعيش واقعاً مأساوياً، وباتت مقبرة للأطفال بسبب تخاذل العالم".
تشير تقارير منظمة اليونيسيف ومنظمة الصحة العالمية إلى أن مئات الأطفال توفوا خلال الأشهر الأخيرة بسبب الجوع، ونقص التغذية، والحرمان من الرعاية الصحية الأساسية، وقد حذرت الأمم المتحدة منذ أشهر من أن أكثر من نصف مليون فلسطيني في غزة يواجهون مستويات من الجوع الكارثي (المرحلة الخامسة من تصنيف انعدام الأمن الغذائي العالمي).
ورغم التحذيرات المتكررة، يتعمد الكيان الإسرائيلي عرقلة دخول المساعدات الإنسانية عبر المعابر، ويستهدف البنى التحتية المرتبطة بتوزيع الغذاء، مثل المستودعات والمخابز ومحطات المياه، فيما يُسجل استشهاد مدنيين أثناء محاولتهم الوصول إلى شاحنات المساعدات في مشاهد صادمة أعادت إلى الأذهان مجاعات الحروب الكبرى.
الاحتلال يخلّ بالتزاماته القانونية
إلى جانب ألبانيزي، جاءت تصريحات أخرى من مسؤولين في وكالات أممية لتؤكد على حجم المأساة وتقصير "إسرائيل" كقوة احتلال.
قال سليم عويس، المتحدث الإقليمي باسم منظمة "اليونيسيف" لقناة الجزيرة:
"إسرائيل ترفض الكثير من طلبات إدخال المساعدات ما أدى لما نراه الآن في قطاع غزة".
فيما صرح توم فليتشر، رئيس الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة أمام مجلس الأمن الأسبوع الماضي:
"الوضع في غزة يتجاوز الوصف، فهناك نقص تام في الغذاء وإطلاق نار على من يبحث عن الطعام".
وأكد فليتشر أن "إسرائيل"، بصفتها قوة احتلال، تُخِلّ بالتزاماتها القانونية بموجب اتفاقيات جنيف، والتي تلزمها بتوفير الحد الأدنى من احتياجات المدنيين الذين يعيشون تحت سلطتها.
طرد الوكالات الأممية: محو الشهود
تزامناً مع هذه التصريحات، اتخذت "إسرائيل" إجراءات تصعيدية ضد المنظمات الإنسانية، فقد رفضت تجديد تأشيرات رؤساء ثلاث وكالات أممية على الأقل في غزة، وهي:
1. مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية "أوتشا".
2. المفوضية السامية لحقوق الإنسان.
3. وكالة الأونروا المعنية بشؤون اللاجئين الفلسطينيين.
وأكد ستيفان دوجاريك، المتحدث باسم الأمم المتحدة، أن هذه التأشيرات لم تُجدد منذ أشهر، ما يعكس سياسة إسرائيلية ممنهجة لمنع الرقابة الدولية على ما يجري داخل القطاع، ومنع توثيق الجرائم والانتهاكات.
يرى مراقبون أن هذه الخطوة تهدف إلى "حجب الحقائق وفرض عزلة كاملة على غزة"، ما يجعل المساعدات والرقابة الحقوقية رهينة لموافقة الاحتلال، وهي سياسة ترقى إلى جريمة حرب وفقاً لنصوص القانون الدولي.
صمت المجتمع الدولي: "مكافأة للجريمة"
قالت ألبانيزي في سياق آخر:
"المجتمع الدولي يكافئ إسرائيل، ولا يمكن الحديث عن حل الدولتين وإسرائيل ترتكب إبادة جماعية".
هذا التصريح يسلط الضوء على "الازدواجية الصارخة" في مواقف بعض الدول الغربية، التي تواصل تقديم الدعم العسكري والمالي والدبلوماسي لـ"إسرائيل"، في الوقت الذي ترتكب فيه الأخيرة جرائم موثقة ضد المدنيين.
وقد فشلت الولايات المتحدة، وبريطانيا، وعدة دول أوروبية في تبني موقف حازم تجاه الانتهاكات، مكتفية بالتصريحات الدبلوماسية الغامضة، أو بمنع أي تحرك دولي في مجلس الأمن يُلزم "إسرائيل" بوقف العدوان.
وفي ظل هذه البيئة، تحوّل "الصمت إلى شراكة ضمنية" في الجريمة، كما وصفه بعض الحقوقيين الدوليين، وخصوصًا بعد أن فشلت الجهود الدولية في ضمان إيصال المساعدات أو وقف المجازر.
هل تنطبق معايير الإبادة الجماعية؟
وفقًا لتعريف الإبادة الجماعية في اتفاقية عام 1948، فإن أي من الأفعال التالية، إذا ارتُكبت "بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو دينية"، يعتبر إبادة جماعية:
* القتل الجماعي لأفراد الجماعة.
* إلحاق أذى بدني أو نفسي جسيم بأفرادها.
* فرض ظروف معيشية بقصد إهلاكها الفعلي.
* فرض إجراءات تهدف إلى منع الإنجاب.
* نقل أطفال الجماعة قسرًا إلى جماعة أخرى.
الممارسات التي رُصدت في غزة تشمل قتل المدنيين العُزّل بشكل مباشر، تجويع ممنهج، تدمير المستشفيات والبنية التحتية، منع دخول الوقود والدواء، واستهداف الأطفال والنساء وذوي الإعاقة، وهي مؤشرات تتطابق بشكل كبير مع التعريف القانوني لجريمة الإبادة.
ويؤكد خبراء قانون دولي أن تصريحات ألبانيزي تأتي استنادًا إلى هذا التعريف، وليست مجرد توصيف سياسي.
هل تتحرك العدالة الدولية؟
تدعو ألبانيزي إلى محاسبة الكيان الإسرائيلي أمام المحاكم الدولية، وتطالب المجتمع الدولي بالكف عن استخدام خطاب التوازن، الذي يساوي بين الجلاد والضحية.
لكن، وعلى الرغم من التحرك الجزئي من قبل محكمة العدل الدولية، لم تتحرك "المحكمة الجنائية الدولية" بالشكل الكافي لمحاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين، رغم توافر الأدلة والشهادات والتوثيق.
وترى ألبانيزي أن الضغط السياسي الغربي، وخصوصًا من الولايات المتحدة، يمنع المؤسسات الدولية من أداء دورها، ما يشكل تهديدًا على "مصداقية النظام القانوني الدولي بأكمله".
لماذا يُستهدف الأطفال والضعفاء؟
يطرح مراقبون تساؤلاً خطيراً: لماذا يركّز الكيان الإسرائيلي في عدوانه على الفئات الأضعف؟
الإجابة حسب محللين حقوقيين تكمن في أمرين:
1. ترهيب المجتمع الفلسطيني لكسر صموده: فقتل الأطفال والنساء يهدف إلى ضرب النسيج المجتمعي الفلسطيني.
2. الهندسة الديمغرافية: إذ يرى البعض أن المشروع الإسرائيلي يسعى إلى تقليص عدد السكان الفلسطينيين بأي وسيلة، عبر التهجير أو القتل أو منع الولادة، ما يتقاطع مع مفهوم "التطهير العرقي".
بين نداء الضمير وعجز المؤسسات
تمثل تصريحات فرانشيسكا ألبانيزي نداءً أخيرًا من الضمير الإنساني، في لحظة تحوّلت فيها غزة إلى مسرح لجريمة مفتوحة، تُرتكب أمام أعين العالم، دون رادع أو محاسبة.
لقد وضعت المقررة الأممية المجتمع الدولي أمام مرآة الحقيقة: إما أن يتحرك لإنقاذ المدنيين، أو يظل شريكًا في جريمة إبادة تُنفذ على الهواء مباشرة.
وبينما تتواصل المجازر، لا تزال أصوات فلسطينية من داخل الركام والجوع تطالب بحق الحياة، وتنتظر من "العدالة الدولية" أن تتجسد في فعل، لا مجرد بيانات.