الوقت- في تطور بالغ الخطورة في العلاقات الدولية والقانون الدولي، وجدت "إسرائيل" نفسها رسمياً متهمة بارتكاب "جريمة الإبادة الجماعية" ضد سكان قطاع غزة، وهي تهمة طالما طالب بها الفلسطينيون ومناصروهم منذ عقود دون أن تلقى استجابة دولية فعلية، أما اليوم، فها هي تدخل رسمياً حيز التداول القانوني والدبلوماسي، بما يفتح باباً غير مسبوق لمساءلة "إسرائيل" عن جرائمها التاريخية في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
الاتهام الرسمي: بين القانون والواقع
أطلقت منظمة العفو الدولية في ديسمبر 2024 تقريراً تفصيلياً من 296 صفحة، خلصت فيه إلى أن سلطات الاحتلال، من خلال عملياتها العسكرية في غزة منذ أكتوبر 2023، قد مارست ثلاثة من الأفعال الخمسة التي تُعرّف جريمة الإبادة الجماعية في اتفاقية 1948، وهي: القتل الجماعي، إلحاق الأذى الجسدي والنفسي الخطير، وفرض ظروف معيشية قاسية تهدف إلى التدمير المادي الجزئي أو الكلي لشعب معين.
التقرير استند إلى صور أقمار صناعية، شهادات ناجين، مقابلات مع خبراء قانونيين، وتصريحات لمسؤولين إسرائيليين، من بينهم وزراء دعوا علناً إلى "تدمير غزة" أو "قطع الكهرباء والماء" عن سكانها، وهي تصريحات وثّقها التقرير كأدلة على نية الإبادة.
"إسرائيل" ترد.. اتهامات "مهووسة"
الرد الإسرائيلي لم يتأخر، حيث وصفت الحكومة التقرير بأنه "مليء بالأكاذيب والتحريض"، واتهمت منظمة العفو بأنها "مهووسة بإسرائيل" و"تخدم رواية حركة حماس"، حسب تعبيرها، وقد أكدت وزارة الخارجية الإسرائيلية أن العمليات العسكرية في غزة كانت "دفاعاً عن النفس" بعد الهجوم الدامي الذي شنته حماس في الـ 7 من أكتوبر 2023.
بل إن فرع منظمة العفو داخل الكيان الصهيوني نفسه، رفض نتائج التقرير الأم، معتبراً أن الأدلة لا تثبت "نية التدمير الجماعي"، وهي عنصر جوهري في تصنيف الفعل كإبادة جماعية بموجب القانون الدولي، ورغم هذا، أقر الفرع الإسرائيلي بوجود "انتهاكات جسيمة للقانون الإنساني الدولي".
المحكمة الدولية تدخل على الخط
لم تتوقف المسألة عند حدود التقارير الحقوقية، فقد رفعت جنوب أفريقيا في يناير 2024 دعوى أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي، تتهم فيها "إسرائيل" بانتهاك اتفاقية منع الإبادة الجماعية، وقد قررت المحكمة في حكم أولي أن هناك "أسساً معقولة" للنظر في الدعوى، وأمرت "إسرائيل" باتخاذ إجراءات عاجلة لمنع وقوع مزيد من الانتهاكات بحق المدنيين في غزة، دون أن تصل بعد إلى حكم نهائي حول التهمة الجوهرية.
إذا ثبتت التهمة وهو احتمال قانوني طويل الأمد فإنها ستكون أول حالة تُدان فيها دولة غربية حليفة للولايات المتحدة بارتكاب إبادة جماعية منذ الحرب العالمية الثانية، ما سيفتح الباب أمام عقوبات دولية، وملاحقات جنائية، وربما إعادة النظر في الدعم العسكري والمالي الممنوح لها من قبل الدول الغربية.
موقف المجتمع الدولي: انقسام حاد
كان من اللافت الانقسام الدولي حول الاتهامات، فقد سارعت الولايات المتحدة إلى رفض التقرير، معتبرة أنه "لا أساس له من الصحة"، وأن سلطات الاحتلال "تتخذ إجراءات مشروعة للدفاع عن مواطنيها"، بينما حذت ألمانيا حذو واشنطن، ورفضت وصف ما يحدث بالإبادة الجماعية.
في المقابل، أيّدت دول عديدة في الجنوب العالمي من بينها ماليزيا، البرازيل، وجنوب أفريقيا الاتهامات، واعتبرت ما يحدث في غزة "جريمة ضد الإنسانية"، مشددة على أن الحصانة التي تتمتع بها "إسرائيل" لم تعد أخلاقية ولا قانونية.
الإعلام الإسرائيلي: بين الإنكار والقلق
رغم عدم صدور اعتراف رسمي من وسائل الإعلام الإسرائيلية بالاتهام، إلا أن بعض التحليلات أشارت إلى القلق من الأثر المتزايد لحملات المقاطعة الدولية، وخاصة في الأوساط الأكاديمية والثقافية في أوروبا وأمريكا، وقد دعت صحف إسرائيلية مثل "هآرتس" و"تايمز أوف إسرائيل" إلى "إعادة تقييم الخطاب السياسي الداخلي"، خشية تفاقم العزلة الدولية.
كما حذر بعض المعلقين الإسرائيليين من أن تصريحات عدد من وزراء الحكومة، وخصوصاً من التيار اليميني المتطرف، قد تُستخدم كأدلة قانونية ضده في المستقبل، ما يُعرض الدولة وقادتها لملاحقات جنائية دولية.
الرأي العام العربي والفلسطيني: خطوة نحو العدالة؟
على الجانب الآخر، استقبل الرأي العام الفلسطيني والعربي هذه الاتهامات كـ “انتصار رمزي" طال انتظاره، ففي ظل عقود من الاحتلال والحصار والحروب، بدا أن القانون الدولي، ولو متأخراً، بدأ يتحرك نحو إقرار مسؤولية حقيقية عن معاناة الفلسطينيين.
وقد دعا نشطاء ومثقفون فلسطينيون إلى مواصلة الضغط القانوني والدبلوماسي، مع التركيز على توثيق الجرائم، وخاصة مع التعتيم الإعلامي على بعض المناطق المتضررة في شمال غزة.
في النهاية، تُعد هذه الاتهامات لحظة فارقة في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فهي المرة الأولى التي يُتهم فيها أحد الأطراف رسمياً بجريمة الإبادة الجماعية من قبل مؤسسة حقوقية كبرى ومحكمة دولية مرموقة، لكنها أيضاً اختبار حقيقي لقدرة القانون الدولي على مواجهة السياسات الواقعية وموازين القوى.
فما بين التوثيق الدقيق والانكار السياسي، تبقى الحقيقة معلقة بميزان العدالة الدولية، والضمير الإنساني الذي لم يعد يستطيع أن يتجاهل حجم الكارثة الإنسانية المتواصلة في غزة.