الوقت- في ظل تعقيدات المشهد السياسي وأزمات غرب آسيا المشتعلة، استضافت طهران يوم الأحد الماضي "منتدی طهران للحوار"، وهو ملتقى فريد انعقد في مركز الدراسات السياسية والدولية التابع لوزارة الخارجية الإيرانية، بحضور نخبة من الشخصيات البارزة على المستويين الوطني والدولي.
ضمّ المنتدی ممثلين عن أكثر من خمسين دولة، اجتمعوا للتباحث بشأن التحديات الإقليمية والدولية، واستكشاف السبل المثلى لمعالجة الأزمات. واستمرت أعماله على مدار يومين، حيث دارت النقاشات حول محاور جوهرية شملت الاستقرار الإقليمي، حقوق الإنسان، ودور الدبلوماسية في تسوية النزاعات.
وكما هو الحال في المنصات الحوارية الكبرى، يسعى "منتدی طهران للحوار" إلى توفير فضاء رحب للدبلوماسية وتبادل الرؤى بين المسؤولين والمفكرين الدوليين. وفي هذا السياق، تتطلع إيران، بصفتها المبادرة والمضيفة لهذا الحدث، إلى تقديم نفسها كفاعل مسؤول وقائد ريادي في مساعي السلام والاستقرار الدولي. كما تسعى إلى صياغة نموذج توافقي يعزّز نظامًا إقليميًا وعالميًا جديدًا، يقوم على العدالة وينبذ الهيمنة، ويستمد شرعيته من إرادة الشعوب الحرة بعيدًا عن الإذعان لسطوة القوى الخارجية. رؤية طهران هذه أكسبت المجمع تفردًا مميزًا بين نظرائه، وجعلته محل اهتمام المفكرين والسياسيين المستقلين وحكومات الجنوب العالمي.
تضمنت أعمال المنتدی أربعين جلسةً تخصصيةً تناولت محاور متعددة، أبرزها النظام الإقليمي الجديد، المقاومة، البدائل الهيكلية في النظام الدولي، ومستقبل القضية الفلسطينية.
وفي اليوم الأول من المنتدی، كانت المواقف المطروحة من قبل المسؤولين الإيرانيين والشخصيات الدولية البارزة، شاهدةً على توافق الرؤى بشأن أهمية التقارب السياسي والاندماج الاقتصادي بين دول المنطقة. هذا التوجه لا يقتصر على تعزيز النمو والرفاهية فحسب، بل يثمر كذلك عن تضافر الجهود في مواجهة الأزمات، ويكرّس ثقافة السلام والاستقرار.
وفي مستهل الجلسات، ألقى الرئيس الإيراني مسعود بزشکیان كلمةً افتتاحيةً حملت مضامين عميقة، حيث أكد على ضرورة احترام حقوق الإنسان، قائلًا: “إذا أُعلِيت حقوق الإنسان وصُوّنت كرامته، فإن أسباب الحروب والجرائم والاعتداءات ستتلاشى. نحن نطمح إلى أن نتكاتف ونتعاون لبناء منطقة تنعم بالسلام والطمأنينة. فلنمدّ يد العون لبعضنا، ولنخلق واقعًا يتيح لنا جميعًا الاستمتاع بالحياة في منطقتنا، رغم أن أعداءنا لا يرغبون في أن يتحقق هذا الحلم.”
دبلوماسية فاعلة وعالمية؛ نقضٌ على سياسة عزل إيران
انعقد "منتدی طهران للحوار" في لحظة فارقة، متزامنًا مع زيارة دونالد ترامب للدول الخليجية، حيث حملت تلك الزيارة مشاريع عدائية ضد إيران، متوشّحةً بدعاوى واتهامات تهدف إلى تبرير السياسات الأمريكية التي زرعت بذور عدم الاستقرار في المنطقة، وغطّت على دعمها المطلق لعدوان الكيان الصهيوني. إلا أن هذا المنتدی جاء ليُسقط تلك الادعاءات، ويفضح زيفها، مؤكدًا على بطلانها بأقوى الحجج وأبلغ الرسائل.
إن حضور وزراء الخارجية، والدبلوماسيين، والمفكرين، والنخب من أكثر من خمسين دولة في هذا الحدث، يحمل دلالات عميقة تتجاوز البعد السياسي، إذ يشير إلى أن صورة إيران في أعين العديد من الفاعلين الدوليين، تتباين تمامًا مع ما تروّجه الدعاية الغربية. فالمجتمع الدولي لا ينظر إلى إيران كتهديد، بل يراها قلعةً للاستقرار ومنارةً للحوار في منطقة مضطربة، حيث تسعى إلى مدّ جسور التواصل بدلًا من تشييد أسوار العزلة.
وفي هذا السياق، وصف الخبير في شؤون غرب آسيا السيد حسن هاني زاده انعقاد هذا المنتدی، مباشرةً عقب زيارة ترامب، بأنه حدث بالغ الأهمية. وفي حديثه مع موقع “الوقت”، أشار إلى أن: “الإقبال الكبير على هذا المنتدی يكشف عن أن إيران ليست دولةً معزولةً، بل تحتفظ بمكانتها المرموقة، وتتمتع بمستوى رفيع من القبول على الساحة العالمية. إن هذا الحضور المكثف، وما يُطرح من رؤى حول دور إيران في الخطاب العالمي، يمكن أن يرفع مكانتها إلى مستوى أكثر قوةً، يُمكّنها من مواجهة القوى الاستكبارية العالمية.”
على الجانب الآخر، وبينما تجسدت دبلوماسية الولايات المتحدة في صفقات بيع أسلحة بمليارات الدولارات لدول المنطقة، وهي صفقات لا تُفضي إلا إلى تأجيج سباق التسلح وزيادة اضطراب الأوضاع، فإن إيران، من خلال "منتدی طهران للحوار"، تقدّم مسارًا مغايرًا تمامًا، مسارًا يرتكز على تعزيز الدبلوماسية الإقليمية، وتشجيع الحوار بين الشعوب، وبناء تعاون مشترك لتحقيق الأمن الجماعي.
وقد أكد المسؤولون الإيرانيون مرارًا أن الوقت قد حان لإنهاء الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة، وأن على الدول الإقليمية أن تتحمل مسؤولية أمنها بيدها. وعلى هذا الأساس، فإن مبادرات مثل "منتدی طهران للحوار" تمثّل خطوةً رائدةً نحو تمهيد الطريق لتعاون إقليمي يهدف إلى تأسيس نظام مستقل، بعيدًا عن هيمنة القوى الخارجية.
وفي هذا الإطار، أشار السيد هاني زاده إلى أن هذا المنتدی يمكن أن يؤدي دورًا محوريًا في تصحيح التصورات العالمية تجاه السياسات الإيرانية، مضيفًا: “إن هذا المنتدی يعكس إرادة إيران، حكومةً وشعبًا، في إقامة حوار بناء مع دول المنطقة والعالم، يرتكز على القيم الإسلامية والوطنية. وفي ظل وجود عشرات القنوات الإعلامية المعارضة لإيران، والتي دأبت على شن حملات دعائية واسعة خلال السنوات الأخيرة، يأتي هذا الحدث ليُحدث تحولًا في هذه المعادلة، ويؤسّس لمنصة حوار دولية قادرة على مواجهة هذا التضليل الإعلامي. ولهذا السبب، فإن الإقبال الكبير على المنتدی يؤكد جدية إيران في تعزيز تواصلها مع المجتمع الدولي، ومواجهة الحملات المغرضة، مما قد يسهم في تقليص النفوذ الإقليمي للكيان الصهيوني.”
إن التصريحات التي أدلى بها الرئيس الإيراني، وزير الخارجية الإيراني، والضيوف الدوليون الذين شاركوا في هذا المنتدی، تكشف عن توجه إيران نحو إعادة صياغة دورها في النظام العالمي الجديد. فدبلوماسيتها النشطة ومتعددة الأبعاد، إلى جانب نهجها المرتكز على المقاومة، جعلت من طهران، رغم تعرضها لأقسى العقوبات، مركزًا للحوار والمبادرة والاستقرار في المنطقة.
وفي هذا السياق، شدّد وزير الخارجية الإيراني السيد عباس عراقجي على أن استعادة زمام المبادرة في المنطقة لا تعني مجرد تعديل ميزان القوى، بل تستهدف إعادة تشكيل الأسس الفكرية والإدراكية التي تضفي الشرعية على النظام القائم. وقال: “يجب ألا نسمح بأن يُصاغ مستقبل منطقتنا في غرف التفكير التابعة للقوى الخارجية. بل ينبغي أن تكون دول المنطقة هي المهندسة لنظامها المستقبلي، وفق إرادتها الحرة وتطلعاتها المستقلة.”
إيران لا تقف مكتوفةً أمام المفاوضات مع أمريكا
انعقد "منتدی طهران للحوار" في ظل أجواء سياسية متوترة، حيث بدأت المفاوضات غير المباشرة بين إيران والولايات المتحدة منذ أسابيع، وتخللتها جولات متتابعة. وعلى الرغم من أن الجمهورية الإسلامية دخلت هذه المفاوضات بروح جادة واستراتيجية واضحة وبنّاءة، إلا أن الطرف الأمريكي اعتمد نهجًا متناقضًا، مزج بين مطالب مفرطة وتهديدات عسكرية متقطعة، ليقود مسار المباحثات بعيدًا عن أفق التوافق المنشود.
وفي مواجهة هذا الواقع، لم تقتصر إيران على الرد العسكري بإبراز استعدادها الدفاعي، وإظهار قدرتها على خلق تهديدات مضادة تستهدف مصالح الولايات المتحدة وقواعدها في المنطقة، بل اختارت أن ترسل رسالةً سياسيةً ودبلوماسيةً بالغة العمق عبر تنظيم "منتدی طهران للحوار". هذه الرسالة تؤكد أن الجمهورية الإسلامية لا تنتظر المفاوضات أو تترقب رفع العقوبات، بل تنصرف إلى استثمار قدراتها الذاتية وتعزيز تعاونها مع دول العالم، مع التركيز على تنمية العلاقات الاقتصادية مع جيرانها كأولوية استراتيجية.
منتدی طهران للحوار… منصة دولية رائدة
حظي "منتدی طهران للحوار" بإقبال واسع على المستويين الإقليمي والدولي، مما يفتح الباب أمام إمكانية تحويله إلى منصة دائمة ذات تأثير جوهري على مسارات السلام والاستقرار العالميين.
وفي هذا السياق، أكد السيد حسن هاني زاده على الإمكانات الكبيرة التي يتمتع بها هذا المنتدی ليصبح مركزًا عالميًا للحوار، قائلًا: “إن إيران تمتلك من المقومات الثقافية والاجتماعية والسياسية، ومن نفوذها بين الدول، لا سيما في أوساط العالم الإسلامي، ما يؤهّلها لتكون محورًا للحوار العالمي. إن هذا المنتدی يمكن أن يتحول إلى حركة ثقافية متنامية تُعزّز التفاهم، وتُوطّد التعاون بين الدول. ومن هنا، فإن تأسيس أمانة دائمة في طهران، تُعنى بتنظيم حوارات دورية بين إيران والمجتمع الدولي، يمكن أن يُثمر عن صياغة رؤى مستدامة للتفاعل مع النظام الدولي.”
إن انعقاد "منتدی طهران للحوار" بمشاركة ممثلين من عشرات الدول بعث برسالة بالغة الوضوح إلى العالم: إيران ليست دولةً معزولةً، بل إن دبلوماسيتها الإقليمية أصبحت أكثر نشاطًا وحيويةً من أي وقت مضى. وقد جاء هذا المنتدی ليقف في مواجهة السياسات الغربية التدخلية، وليؤسّس لدعائم الاستقرار عبر مسارات الحوار والتعاون الإقليمي، وليُثبّت مكانة إيران في النظام العالمي الجديد.
منتدی طهران للحوار، بوصفه مبادرةً دبلوماسيةً إيرانيةً، يُجسّد نموذجًا محليًا لإدارة الأزمات الإقليمية، ويُعزز الحوارات التوافقية بين دول المنطقة. إن هذا المنتدی، القائم على حلول نابعة من الداخل، يسعى إلى ترسيخ التعاون وتخفيف التوترات بعيدًا عن تدخل القوى الخارجية، ليكون بذلك أداةً فاعلةً في صياغة مستقبل المنطقة بيد أبنائها، لا تحت هيمنة الغرب.