الوقت- تشهد المناطق الساحلية في سوريا، ولا سيما محافظتا اللاذقية وطرطوس، تصاعداً مقلقاً في أعمال العنف الممنهج ضد المدنيين من الطائفة العلوية، فيما بات يوصف بـ "المجزرة الصامتة"، وعلى الرغم من مرور أكثر من عقد على اندلاع الحرب السورية، فإن عودة مشاهد التصفيات الطائفية تثير تساؤلات عديدة حول هشاشة الاستقرار النسبي، واستمرار منطق الانتقام والفرز المذهبي في المشهد السوري المعقد.
مذبحة بصمت.. أكثر من 700 قتيل خلال أسابيع
حسب تقارير محلية وأخرى صادرة عن منظمات حقوقية سورية، فإن أكثر من 745 مدنياً علوياً قُتلوا في الأسابيع الأخيرة، خلال عمليات منظمة شملت إعدامات ميدانية، حرق منازل، واختطاف، في عدد من القرى النائية الواقعة ضمن الشريط الساحلي، الذي يُعد تقليدياً أحد أبرز معاقل النظام السوري السابق.
ورغم محدودية التغطية الإعلامية، إلا أن بعض التسريبات كشفت أن المجازر وقعت في مناطق لم تشهد معارك عسكرية مباشرة، ما يرجح فرضية "التطهير الطائفي" المنفذ على يد فصائل متشددة، يُعتقد أنها تنتمي إلى جماعات محسوبة على المعارضة المسلحة، أو خارجة عن سيطرة الدولة.
السياق الجغرافي والديمغرافي: لماذا الساحل؟
منذ بدايات الحرب، حافظ الساحل السوري، ولا سيما محافظتا اللاذقية وطرطوس، على وضع أمني أكثر استقراراً من باقي المناطق السورية، ويعود ذلك جزئياً إلى البنية السكانية التي يغلب عليها الطابع العلوي، والانتماء الواسع لسكانها إلى مؤسسات الدولة والجيش.
غير أن هذا الاستقرار النسبي بدأ يتآكل تدريجياً بعد انسحاب العديد من قوات النظام إلى جبهات أخرى، وظهور فراغات أمنية استغلتها مجموعات مسلحة لأغراض انتقامية أو سياسية، وتشير بعض المصادر إلى وجود "خلايا نائمة من مجموعات مسلحة " تنشط في المناطق الريفية البعيدة عن مراكز المدن، تنفذ هجمات ليلية وتنشر الرعب بين الأهالي.
صمت رسمي وشبه تواطؤ معارض
أثار غياب رد فعل رسمي حازم من قبل مؤسسات الدولة السورية استياءً واسعاً بين أبناء الطائفة العلوية، إذ اكتفت السلطات بالإشارات العامة إلى "هجمات إرهابية"، دون تسليط الضوء على الطابع الطائفي للمجزرة أو اتخاذ إجراءات فعالة لحماية السكان.
من جهة أخرى، يواجه قادة فصائل المعارضة، ولا سيما "هيئة تحرير الشام" بقيادة أبو محمد الجولاني، اتهامات بالتغاضي، وربما التورط غير المباشر، في هذه العمليات، فقد أُعلن مؤخراً عن تشكيل لجنة تحقيق مكوّنة من خمسة قضاة للتحقيق في المجازر، وهو ما اعتبره مراقبون محاولة لتخفيف الضغط الدولي دون نية فعلية لمحاسبة المتورطين.
البُعد الطائفي: هل هي موجة جديدة من التصفيات؟
لطالما ارتبط النزاع السوري بصراع طائفي متداخل مع الانقسامات السياسية والعرقية، وتاريخياً، تعرضت الطائفة العلوية، باعتبارها الأقرب إلى مركز السلطة السابق، لعمليات استهداف سواء من قبل جماعات سلفية متطرفة، أو من قوى إقليمية ترى في الهيمنة العلوية تهديداً لتوازن النفوذ في المنطقة.
الجديد في المشهد الحالي هو غياب التغطية الإعلامية والسياسية الدولية للمجزرة، وهو ما يُعد نتيجة مباشرة لتقاعس الإدارة الجديدة في سوريا عن أداء واجبها في حماية جميع مواطنيها دون تمييز، وتستمر الإدارة الحالية في تجاهل معاناة فئة من السكان، ما يعكس استمرار منطق الانتقاء الأخلاقي في التعاطي مع المأساة السورية، داخلياً وخارجياً.
المواقف الدولية: إدانة محدودة وتحقيقات غائبة
حتى الآن، اقتصرت ردود الفعل الدولية على بيان إدانة صادر عن الخارجية الفرنسية، طالبت فيه بإجراء "تحقيق مستقل وشفاف" بشأن الانتهاكات بحق المدنيين في الساحل السوري، بينما التزمت الأمم المتحدة والمنظمات الكبرى الصمت، في مشهد يعيد إلى الأذهان تخلي المجتمع الدولي عن واجبه في حماية المدنيين السوريين على مدار السنوات الماضية.
ولم تسجّل أي تحركات ملموسة من قبل لجنة التحقيق الدولية الخاصة بسوريا، أو محكمة الجنايات الدولية، ما يُعزز الشعور السائد لدى ضحايا المجزرة بأن دماءهم تُهدر بلا مساءلة.
ماذا بعد؟ مخاوف من امتداد المجازر
يرى محللون أن استمرار هذا النمط من العنف الطائفي قد يؤدي إلى انهيار الهياكل الاجتماعية الهشة المتبقية في سوريا، وزيادة احتمالات التفكك المحلي وتحول النزاع إلى حروب تصفية على أساس الهوية، كما قد تُستخدم هذه المجازر من قبل النظام السوري لتعزيز شرعيته بوصفه "حامي الأقليات"، وهو ما يعزز من قبضته الأمنية، ويضعف فرص الحل السياسي المتوازن.
في النهاية إن ما يجري في الساحل السوري ليس مجرد حوادث متفرقة، بل يحمل ملامح حملة منظمة هدفها إعادة رسم الخريطة السكانية والطائفية في البلاد، إن صمت المجتمع الدولي، وعجز المعارضة عن ضبط صفوفها، وتهاون الدولة في حماية مواطنيها، كلها عوامل تُنبئ بمستقبل أكثر سوداوية لسوريا.
المجزرة الصامتة ضد العلويين اليوم، قد تتحول غداً إلى نمط دائم من التصفية، إذا لم يُقرّ الجميع بأن كل الضحايا، مهما كانت طائفتهم، هم أبناء وطن واحد يجب أن يُحمى، لا أن يُتركوا لأقدارهم وسط صراع بلا نهاية.