الوقت - اعتبر الكثيرون انسحاب القوات العسكرية الأمريكية من أفغانستان في أغسطس/آب 2021، والذي أعقب اتفاق الدوحة للسلام عام 2020 بين واشنطن وطالبان، بمثابة نهاية لعقدين من الوجود الأمريكي المباشر في هذا البلد الذي مزقته الحرب، إلا أن التصريحات الأخيرة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب كشفت حقائق تُظهر أن جزءًا من البنية التحتية العسكرية لأفغانستان، وخاصة قاعدة "باغرام" الاستراتيجية، لم يتم إخلاؤه بالكامل فحسب، بل لا يزال أيضًا تحت سيطرة القوات الأمريكية، يثير هذا الوضع تساؤلات مهمة حول النوايا الحقيقية للولايات المتحدة والبنود الخفية لاتفاق الدوحة.
قال ترامب في خطاب ألقاه في قاعدة عسكرية أمريكية في قطر يوم الخميس: "سنحتفظ بقاعدة باغرام الجوية، سنحتفظ بها، لن نتخلى عنها لأنها تبعد ساعة واحدة فقط عن الصين"، هذا ما زعمه ترامب، أصبحت القاعدة الجوية على الأراضي الأفغانية الآن في أيدي الصين، وكان ترامب قد صرّح سابقًا بأن الصين تُنتج صواريخها النووية على بُعد ساعة من باغرام.
وبهذه التصريحات الصادرة عن ترامب، يتضح أن أحد البنود السرية في اتفاق الدوحة كان يتعلق بالسماح الضمني لطالبان بالاحتفاظ بقاعدة باغرام من قِبل الولايات المتحدة، وبينما نفت طالبان مرارًا أي وجود مستمر للقوات الأجنبية في أفغانستان، تشير معلومات غير رسمية إلى أن عددًا من أفراد الجيش والمخابرات الأمريكية أو شركات الأمن الخاصة لا يزالون في القاعدة.
وفي هذا الصدد، أعلنت بعض المصادر المحلية في منتصف أبريل/نيسان أن طائرة أمريكية من طراز C-17 تحمل عددًا من المعدات العسكرية والمركبات وكبار مسؤولي المخابرات قد هبطت مؤخرًا في قاعدة باغرام، والغريب في الأمر أن نائب مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، مايكل إليس، كان من بين الأشخاص الذين وصلوا إلى باغرام على متن هذه الطائرة، في غضون ذلك، وصف ذبيح الله مجاهد، المتحدث باسم حكومة طالبان، هذه التقارير بأنها دعاية تهدف إلى تضليل الشعب، مؤكدًا أن طالبان لن تسمح بوجود عسكري أجنبي في أفغانستان، قائلاً: "لا حاجة لمثل هذا الوجود في الوقت الراهن".
الأهمية الاستراتيجية لقاعدة باغرام
أصبحت قاعدة باغرام الجوية، الواقعة في ولاية باروان على بُعد 40 كيلومترًا شمال كابول، إحدى أهم مراكز القيادة للعمليات العسكرية والاستخباراتية الأمريكية في المنطقة على مدار العقدين الماضيين، ويشير الحفاظ على هذه القاعدة حتى بعد الانسحاب الرسمي إلى نهج واشنطن الجديد في إدارة التطورات السياسية والأمنية في أفغانستان بشكل غير مباشر؛ وهو نهج تلعب فيه العقوبات الاقتصادية أيضًا دورًا حاسمًا كمكمل عسكري، بفرض العقوبات وحجب الموارد المالية لأفغانستان بعد سيطرة طالبان، مهدت الولايات المتحدة الطريق للضغط والمساومة غير المباشرة، وفي هذا السياق، لا تُعتبر باغرام قاعدة عسكرية فحسب، بل تُعتبر أيضًا مركزًا للرصد الاستخباراتي وإدارة الأزمات والضغط الاستراتيجي.
في ظل هذه الظروف، لا تُستخدم قاعدة باغرام كقاعدة عسكرية فحسب، بل تُستخدم أيضًا كأداة مراقبة وتحكم للضغط عن بُعد، باستخدام هذه القاعدة، تستطيع الولايات المتحدة رصد المعلومات الأمنية والسياسية في المنطقة، ورصد تحركات الجماعات المسلحة، وإدارة مسار التطورات في أوقات الأزمات بتدخل محدود ومُركز.
استبدال باغرام بالعراق
من خلال الحفاظ على قاعدة باغرام الاستراتيجية في أفغانستان، تسعى الولايات المتحدة إلى إنشاء نقطة دعم وبديل لتقليص وجودها المباشر في العراق، في السنوات الأخيرة، تعرض وضع القوات الأمريكية في العراق لاهتزازات حادة؛ فمن جهة، ازدادت هجمات جماعات المقاومة المتكررة على القواعد الأمريكية، ومن جهة أخرى، دعا البرلمان العراقي والرأي العام إلى الانسحاب الكامل للقوات الأجنبية من البلاد.
في ظل هذه الظروف، تسعى الولايات المتحدة إلى تمهيد الطريق لانسحاب تدريجي من العراق من خلال نقل جزء من قدراتها الاستخباراتية واللوجستية والعملياتية إلى باغرام، دون إضعاف نفوذها الإقليمي، ويتيح الموقع الجغرافي لقاعدة باغرام، على بُعدٍ أكثر أمانًا نسبيًا من التهديدات المباشرة، لواشنطن مراقبة التطورات الأمنية في غرب آسيا، والتدخل، عند الضرورة، في عملية التطورات في العراق بطريقةٍ مُستهدفة، وتُعتبر هذه الاستراتيجية نوعًا من الانسحاب المُنظّم.
احتواء مثلث "الصين وروسيا وإيران"
يُعدّ احتواء النفوذ الصيني المتنامي في أفغانستان أحد الأهداف الرئيسية والاستراتيجية للولايات المتحدة في الحفاظ على وجودها العسكري المحدود في باغرام، في السنوات الأخيرة، سعت الصين إلى ترسيخ وتوسيع موطئ قدمها في أفغانستان من خلال الاستثمار بكثافة في مشاريع التعدين والبنية التحتية، بالإضافة إلى ربطها بمبادرة "الحزام والطريق" الضخمة، وتعتبر واشنطن هذه الإجراءات تهديدًا خطيرًا للمصالح الاستراتيجية للغرب، وفي هذا الصدد، تراقب الولايات المتحدة، باستخدام قدراتها الاستخباراتية والعسكرية في باغرام، تحركات الصين عن كثب، وتمنعها من الهيمنة الكاملة على موارد أفغانستان الغنية وموقعها الجيوستراتيجي، وهي نقطةٌ أكدها ترامب نفسه صراحةً في تصريحاته.
من ناحية أخرى، يُتيح الموقع الجغرافي لقاعدة باغرام، الواقعة قرب الحدود الشرقية لإيران، للولايات المتحدة فرصةً استثنائيةً لمراقبة سياسات طهران وأنشطتها الإقليمية، ومواجهتها عند الضرورة، وقد زادت إيران نفوذها في السنوات الأخيرة، ولا سيما في غرب أفغانستان، ولكن من خلال الحفاظ على قاعدة باغرام، تُواصل الولايات المتحدة، حتى مع انخفاض وجودها العسكري المباشر، الحفاظ على مركزٍ لرصد تحركات إيران من خلال أدوات المعلومات والضغط غير المباشر، لذلك، أصبح هذا الوجود بمثابة محطة تنصت متقدمة ومركز رصد للأنشطة الصينية والإيرانية في المنطقة.
إضافةً إلى ذلك، تُعرف أفغانستان بكونها جسرًا إلى آسيا الوسطى، وهي منطقة لطالما كانت ذات أهمية استراتيجية بالغة للجهات الفاعلة العالمية، ومن خلال الحفاظ على باغرام، تعتزم الولايات المتحدة زيادة نفوذها في هذه المنطقة، ومن خلالها الاقتراب من الحدود الجنوبية لروسيا، تُعرف آسيا الوسطى بأنها الفناء الخلفي التقليدي لروسيا، وهي منطقة استراتيجية للولايات المتحدة، حيث تسعى واشنطن إلى تغيير ميزان القوى لمصلحتها من خلال إنشاء قواعد نفوذ جديدة.
لذلك، لا يُمكن تفسير استمرار الوجود الأمريكي في باغرام على أنه مجرد إرث من حروب الماضي، بل كجزء من استراتيجية شاملة وطويلة الأمد لاحتواء منافسي أمريكا الجيوسياسيين في قلب آسيا، هذه الاستراتيجية، التي تجمع بين الوجود العسكري المحدود، واستخدام القدرات الاستخباراتية، وممارسة الضغط غير المباشر، تعكس استمرار تنافس النفوذ في المنطقة، وتعزز دور باغرام كنقطة محورية في هذه المعادلة.
باختصار، وخلافًا لما أُعلن عنه رسميًا وإعلاميًا، فإن انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان ليس نهاية حقبة، بل هو بداية مرحلة جديدة من الوجود غير المباشر والإدارة عن بُعد، إن الاحتفاظ بقاعدة باغرام الجوية، رغم انسحاب القوات، يعكس التخطيط الدقيق والاستراتيجي للولايات المتحدة لمواصلة نفوذها في أفغانستان واحتواء المنافسين الجيوسياسيين، هذه التطورات، وإن لم تُنشر على نطاق واسع، سيكون لها آثار عميقة على مستقبل الأمن الإقليمي والنظام الدولي.