الوقت- في تصريح هو الأقرب إلى الاعتراف بالهزيمة، قال "أورن سلومون"، القائد العسكري السابق في جيش الاحتلال الإسرائيلي، إن اغتيال قادة حركة حماس لم يُحدث أي تأثير يُذكر على قدرات الحركة أو صمودها، بل إن البدلاء تولّوا المهام بسرعة وفعالية، هذا الإقرار العلني من شخصية عسكرية بارزة يعكس تصدع الرواية الإسرائيلية التي طالما روّجت لفعالية استراتيجية "قطع الرأس" في حسم المعارك.
من الواضح أن ما كان يُعتبر من قبل "إنجازات استخباراتية" لم يعد يُقنع حتى القادة الإسرائيليين أنفسهم، فسياق التصريحات يكشف أن الرهان على إنهاك المقاومة عبر الاغتيالات لم يؤتِ ثماره، بل زاد من تعقيد المعركة ومنح حماس مزيدًا من الشرعية والمناعة التنظيمية.
إن الحديث عن تماسك الحركة، رغم الضربات المتتالية، يعكس مستوى التحدي الذي تواجهه المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، ليس فقط ميدانيًا، بل أيضًا على صعيد إدارة الحرب النفسية والإعلامية أمام جمهور بدأ يشكك في فاعلية هذه الحرب الطويلة والمكلفة.
حماس... بنية متجددة ومهارات تكتيكية متطورة
ما يلفت النظر في تصريحات "سلومون" هو اعترافه بتطور أدوات حماس التكتيكية، رغم بساطة الوسائل التي تستخدمها، فقد أشار إلى أن المقاتلين يفصلون كاميرات السيارات الخلفية ويستخدمون كاميرات بدائية لتنسيق تفجيرات دقيقة ضد الجيش الإسرائيلي.
هذا التطور اللافت في القدرات التكتيكية، رغم الحصار والقصف والاغتيالات، يؤكد أن حماس ليست مجرد تنظيم مسلح يعتمد على ردود الأفعال، بل هي حركة مقاومة تمتلك قدرة عالية على التكيّف والابتكار في أصعب الظروف.
إن بنية حماس التنظيمية تُظهر مرونة مذهلة، حيث يتم تعويض القيادات بسرعة، وتنفيذ العمليات النوعية بوتيرة منتظمة، وهو ما يشير إلى وجود منظومة مؤسسية فعّالة لا تعتمد على الأفراد بقدر ما تستند إلى العمل الجماعي والتخطيط العميق.
وفي هذا الإطار، تبرز كتائب عز الدين القسام كأداة تنفيذية بارعة تُجيد تحويل الأدوات البسيطة إلى وسائل فعالة في المعركة، هذه القدرة على التحول السريع تكشف فشل التقديرات الإسرائيلية التي ظنت أن ضرب البنية التحتية سيسحق المقاومة.
الاستنزاف المتصاعد للجيش والجبهة الداخلية الإسرائيلية
من أخطر ما جاء في حديث سلومون تأكيده أن الجيش الإسرائيلي يعاني من "الإرهاق" و"الاستنزاف"، وهو توصيف يحمل دلالات تتجاوز السياق العسكري إلى البعد السياسي والاجتماعي، فحين يتحدث قائد ميداني سابق عن تآكل الجبهة الداخلية، فإنه يعكس واقعًا بدأت ملامحه تظهر في الإعلام العبري وتصريحات النخبة السياسية.
الإسرائيليون باتوا يتساءلون إلى متى ستستمر هذه الحرب؟ وما الجدوى من مواصلة العمليات العسكرية في ظل عجز واضح عن تحقيق "الحسم"؟ إن تصاعد الانتقادات الداخلية والقلق المتزايد على مصير الجنود الأسرى، كما عبّر عن ذلك وزير الحرب السابق يوآف غالانت، يعكس حالة التخبط داخل دوائر صنع القرار، وقد حذر غالانت من أن أي اجتياح شامل لغزة قد يؤدي إلى مقتل جميع الأسرى المتبقين، وهو تهديد يسلّط الضوء على تضارب الأولويات بين السياسية والعسكرية داخل الكيان، بعبارة أوضح استمرار الحرب بات عبثيًا ومكلفًا دون أفق للنصر، فيما المقاومة تُثبت يومًا بعد آخر أنها باقية وتتمدد، وتعيد صياغة معادلات القوة بشكل تدريجي ومدروس.
كمائن الموت... ميدان المبادرة بيد المقاومة
في الأيام الأخيرة، نفّذت كتائب القسام سلسلة عمليات دقيقة تحت مسمى "كمائن الموت"، أوقعت خسائر كبيرة في صفوف جيش الاحتلال، ولا سيما في رفح جنوب قطاع غزة، هذه العمليات تعكس تطورًا كبيرًا في قدرة حماس على المبادرة وتحديد توقيت وشكل المعركة، فما يُنشر من مقاطع فيديو وتوثيقات يُظهر دقة متناهية في التخطيط والتنفيذ، بدءًا من زرع الكاميرات السرية، وصولًا إلى التفجير عن بُعد بعد مراقبة استخباراتية محكمة.
وقد أقر موقع "إنتلي تايمز" العبري بذلك حين قال إن فيديوهات حماس تكشف عن عمليات تستغرق أيامًا من الرصد وجمع المعلومات، ما يعني أن المقاومة باتت تمتلك شبكة استخبارات ميدانية فعّالة داخل غزة، رغم التحليق المستمر للطائرات الإسرائيلية وأجهزة التجسس.
الخلاصة هنا أن المقاومة لم تكتفِ بالدفاع عن النفس، بل تحوّلت إلى طرف يمتلك زمام المبادرة، ويوجه ضرباته بدقة وفي توقيت يربك حسابات الاحتلال، ومع كل فشل ميداني جديد، تتضح أكثر فأكثر عبثية الرهان الإسرائيلي على الحسم العسكري، وتترسخ قناعة أن الحل لن يكون أمنيًا، بل سياسيًا يعترف بالواقع: أن حماس باتت طرفًا لا يمكن تجاوزه.
في الختام،في ضوء المعطيات الميدانية، والتصريحات الصادرة من داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية نفسها، بات من الواضح أن استمرار الحرب على غزة لم يعد خيارًا استراتيجيًا، بل عبئًا وجوديًا يُنذر بانفجار داخلي داخل الكيان قبل أن يُفضي إلى "نصر" مفقود. حماس أثبتت بما لا يدع مجالًا للشك أنها حركة مقاومة مرنة، قادرة على امتصاص الضربات، وإعادة إنتاج نفسها سياسيًا وعسكريًا رغم الحصار والتدمير والاغتيالات. لم يعد الحديث عن القضاء على حماس واقعيًا، بل صار نوعًا من التمنّي المقطوع الصلة بالحقائق على الأرض، لقد كشفت حرب غزة الأخيرة أن سلاح الجو، والمخابرات، والاغتيالات الدقيقة، وكل ما اعتُبر أدوات "التفوق الإسرائيلي"، لم ينجح سوى في تعميق الكراهية وتعزيز مشروعية المقاومة.
ومع تآكل ثقة الشارع الإسرائيلي بحكومته وجيشه، فإن أي استمرار في الحرب سيكون انتحارًا سياسيًا وأمنيًا، لقد آن الأوان لصناع القرار في تل أبيب أن يدركوا الحقيقة المعادلة تغيّرت، والخصم الذي ظنّوه قابلًا للكسر، بات أقوى من أي وقت مضى، والحل الوحيد الآن ليس في فوهات البنادق، فحماس رقم صعب لا يمكن تجاوزه أو تجاهله.