الوقت – في ظل استمرار العدوان الإسرائيلي الوحشي على قطاع غزة، واتساع نطاق جرائمه التي لم تستثنِ بشرًا ولا حجرًا، اختار رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو أن يفتح جبهة جديدة – هذه المرة سياسية – موجهًا اتهاماته إلى دولة قطر، في محاولة بائسة لإعادة خلط الأوراق، وصرف الأنظار عن المأزق الحقيقي الذي يعيشه الكيان على المستويات كافة، ولكن التصعيد السياسي ضد الوساطة لا يُخفي حقيقة الانهيار المتسارع في بنية القرار الصهيوني، ولا يقلّل من فداحة الفشل الأخلاقي الذي يتورط فيه هذا الكيان منذ أشهر.
تصعيد دعائي يكشف عمق المأزق
هجوم نتنياهو على دولة تلعب دور الوسيط في ملف إنساني معقد، ليس إلا تعبيرًا عن ارتباك داخلي، ومحاولة للهروب من الحقيقة المرة: أن آلة الحرب الإسرائيلية لم تنجح في تحقيق أي من أهدافها، لا عسكريًا ولا سياسيًا، فالمقاومة لا تزال تقاتل، والرأي العام الدولي بدأ ينقلب تدريجيًا، وصورة الاحتلال – التي كان يتم تسويقها على أنها "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط" – باتت مرادفة للقتل الجماعي والحصار والتجويع.
اتهام الوسيط بالتحريض، بعد أسابيع من القبول به طرفًا في المفاوضات، يعكس بوضوح فشل "إسرائيل" في فرض شروطها أو احتكار طاولة التفاوض، الاحتلال، الذي اعتاد فرض إرادته على من يتوسط أو يتدخل، بات الآن غير قادر على ضبط الإيقاع، أو حتى ضبط أعصابه.
الرواية الصهيونية تنهار... وازدواجية المعايير تنكشف
منذ بداية العدوان، تبنّى الاحتلال خطابًا يحاول تبرير المجازر بذريعة "الدفاع عن النفس"، بينما كانت طائراته تدكّ أحياءً سكنية كاملة وتدفن العائلات تحت الركام، وحين تصدر أصوات تطالب بوقف إطلاق النار، تُتهم بالخيانة أو الانحياز للإرهاب.
هذه الازدواجية التي يُمارسها الكيان باتت مكشوفة أكثر من أي وقت مضى، فكيف لمن ينادي بالإفراج عن رهائنه أن يقصف مدارس تأوي آلاف المدنيين؟ وكيف يهاجم كيانٌ ما دولةً فقط لأنها لم تساير خطابه الدعائي؟ إذا كانت الوساطة لا تتماشى مع أجندته، تُهاجَم، وإذا لم تُستخدم كأداة ضغط على المقاومة، تُدان وتُخوَّن.
فشل الابتزاز السياسي
ما حاول نتنياهو فعله هو ابتزاز سياسي صريح: إما أن تكون مع الرواية الصهيونية، أو تُعتبر طرفًا معاديًا، غير أن هذه السياسة لم تعد فعالة، ولا تلقى صدى كما في السابق، العالم – حتى لو لم يتحرك بشكل جاد – بدأ يسمع أصواتًا مختلفة، ويفتح عينيه على واقع جديد: أن الاحتلال، لا الضحايا، هو من يعرقل الحلول ويؤجج الحرب، ويُدير ملفات إنسانية بمنطق الحصار والضغط.
اتهام الوسطاء، وخاصة في قضايا إنسانية كملف الرهائن أو إدخال المساعدات، يُظهر عجزًا حقيقيًا، لأن من يُفترض أنه يستفيد من الوساطة بات يهاجمها، وكأنها عبء عليه، وهذه مفارقة لا تُفسَّر إلا في سياق فشل "إسرائيل" في إخضاع أي طرف إقليمي تمامًا، أو في تطويع الخطاب السياسي العربي كما كان الحال في الماضي.
الأزمة أعمق من مجرد تصريحات
المشكلة الحقيقية ليست في تصريحات نتنياهو ضد هذه الدولة أو تلك، بل في الأساس الذي يستند إليه سلوكه: عقلية الاستعلاء على المنطقة، ومواصلة العمل بمنطق الاستعمار والردع العسكري والدبلوماسي، لكنه، كما في الميدان، بدأ يخسر المعركة السياسية أيضًا.
فقد بات من الواضح أن محاولات عزل المقاومة، أو شيطنة الحلفاء، لم تعد تُنتج أثرًا، حتى وسائل الإعلام العالمية بدأت – ببطء – تعيد النظر في تغطيتها، وأصوات قانونية وسياسية في الغرب بدأت تتحدث عن محاسبة الكيان على جرائمه، ومع هذا الزخم، يصبح الهجوم على وسيط مجرد محاولة يائسة للتنفيس، لا لتغيير الواقع.
الرأي العام لا يُقمع بالقنابل
ما تخشاه "إسرائيل" ليس فقط فشلها العسكري، بل تآكل صورتها العالمية، فقد اعتادت لعقود أن تستثمر في الضحية وتسوّق لنفسها كدولة محاصرة من الإرهاب، بينما هي في الحقيقة الدولة الوحيدة في المنطقة التي تمتلك ترسانة نووية، وتقصف المدنيين علنًا، وتمنع دخول الغذاء والدواء لملايين البشر.
لذا فإن الردود الصهيونية الهيستيرية على أي نقد – أو حتى على عدم التماهي الكامل مع خطابها – أصبحت مؤشرًا على تحول حقيقي، كل صوت لا يردد الرواية الإسرائيلية بات يُهاجم، وكل دولة ترفض تسييس العمل الإنساني تتعرض للضغط، ومع ذلك، فإن محاولات الإخضاع لم تعد تجدي، بل تفضح من يمارسها.
الكيان الصهيوني يخسر معركة الرواية
إذا كانت "إسرائيل" قد فشلت في كسر غزة عسكريًا، فهي الآن تفشل في السيطرة على السردية الإعلامية والسياسية، الهجوم على الوساطات هو دليل على أنها باتت تتلقى خسائر غير تقليدية، في ميادين لم تكن تتوقع الهزيمة فيها، فالسرد السياسي العربي – رغم تباينه – لم ينجرّ هذه المرة إلى الاصطفاف خلف الاحتلال، بعض الدول – ومنها قطر – لم تُساير هذا التيار، لكنها لم تكن وحدها، بل هناك اليوم مزاج عربي عام، رسمي وشعبي، يرفض أن يكون شاهد زور على جريمة بهذا الحجم.
ختامًا، تصريحات نتنياهو الأخيرة ضد الوساطة والوسطاء ليست إلا محاولة مكشوفة لتوجيه الغضب الداخلي إلى الخارج، وصرف الأنظار عن إخفاقات متراكمة منذ أشهر، لكن مهما علا الصراخ، فإن الحقائق لا تتغير، الكيان الصهيوني متورط في جرائم حرب، يواجه انتقادات دولية متزايدة، ويقف عاجزًا أمام مقاومة صلبة، وخطاب عربي – ولو جزئي – بات يرفض التواطؤ.
إن من يُفجّر المستشفيات، ويمنع دخول الغذاء، ويقصف مراكز الإيواء، لا يملك أي شرعية لمهاجمة الأطراف التي تحاول فتح نوافذ للأمل أو تخفيف المعاناة، فالسقوط الأخلاقي لا يمكن تزيينه بالخطابات السياسية، والكيان، اليوم، في قاع هذا السقوط.