الوقت- في الوقت الذي تتصاعد فيه أصوات الغضب العالمي إزاء الجرائم الإسرائيلية في غزة، تحاول بعض القوى الدولية التخفيف من الضغط الشعبي والدبلوماسي عبر مبادرات ظاهرها إنساني، ولكن باطنها سياسي ومشبوه، من بين هذه المبادرات، تبرز الخطة الأمريكية الجديدة لتوزيع مساعدات في قطاع غزة، والتي قوبلت بتحذيرات وانتقادات واسعة، بالتوازي مع إعلان الاتحاد العام لنقابات العمال في النرويج عن توصيته بمقاطعة "إسرائيل"، في موقف نادر وذي دلالات كبيرة يصدر عن دولة أوروبية.
بين المساعدات والقصف: خطة أمريكية مشكوك في نواياها
أعلنت الولايات المتحدة مؤخراً عن خطة إنسانية لتوزيع المساعدات في قطاع غزة، تتضمن إسقاط مساعدات من الجو وإنشاء ممرات بحرية، في محاولة كما تقول لتخفيف الكارثة الإنسانية المتفاقمة، لكن هذا الإعلان قوبل بسيل من الانتقادات من منظمات حقوقية ومحللين يرون في هذا التحرك خطوة دعائية تهدف إلى تبييض الدور الأمريكي في الحرب، أكثر من كونها مساعدة فعلية لسكان غزة.
فمن المعروف أن الولايات المتحدة، منذ بدء العدوان الإسرائيلي في أكتوبر 2023، قدّمت دعماً غير محدود للعدو، سياسياً وعسكرياً، بما في ذلك تزويدها بالأسلحة والغطاء الدبلوماسي في مجلس الأمن، ويصعب على أي مراقب مستقل أن يتقبل أن الطرف الذي كان سبباً رئيسياً في الدمار، هو ذاته من يسعى لتقديم الإغاثة، هذا التناقض الصارخ يطرح تساؤلات مشروعة حول النوايا الحقيقية لهذا المشروع.
العديد من المحللين يرون أن توزيع المساعدات بهذه الطريقة لا يعالج أصل المشكلة، وهو الحصار الإسرائيلي الخانق على القطاع منذ أكثر من 17 عاماً، والذي تصاعد إلى حدود الإبادة خلال الحرب الأخيرة، كما أن توزيع المساعدات من الجو أو البحر دون التنسيق مع الأطراف الفلسطينية الفاعلة، وخاصة في ظل استمرار القصف والقتل والتجويع، قد يكون غطاءً لتحركات استخباراتية أو تمهيداً لتثبيت ترتيبات أمنية أو سياسية مفروضة على الفلسطينيين لاحقاً.
وحسب تقارير ميدانية، فإن نسبة كبيرة من هذه المساعدات لا تصل إلى المحتاجين، أو تسقط في مناطق يصعب الوصول إليها، في ظل غياب أي إشراف فلسطيني عليها، ما يزيد من الشكوك بأن هذه المبادرات ليست سوى واجهة إعلامية لإعادة تسويق الدور الأمريكي في المنطقة، وليس استجابة حقيقية لمعاناة سكان غزة.
من أوسلو إلى غزة: نقابات النرويج تكسر الصمت الأوروبي
وفي مقابل هذه الازدواجية الغربية، جاء موقف نقابات العمال في النرويج، ليشكّل صدمة إيجابية في مشهد دولي يبدو خانعاً أمام إرادة تل أبيب وواشنطن، فقد أوصى اتحاد نقابات العمال النرويجي وهو الأكبر في البلاد بفرض مقاطعة على الكيان الصهيوني، داعياً إلى إجراءات ملموسة على المستويات الاقتصادية والأكاديمية والثقافية، رداً على الجرائم المستمرة في غزة.
هذا الموقف النرويجي لم يكن فقط أخلاقياً، بل يحمل دلالات استراتيجية عميقة، لأنه صدر عن دولة أوروبية ذات تقاليد دبلوماسية في الوساطة الدولية، وسبق أن لعبت أدواراً في عمليات السلام، كما أن النقابات العمالية تشكل قوة ضغط حقيقية داخل النرويج، ويمكن أن تدفع الحكومة لاتخاذ مواقف أكثر جرأة تجاه "إسرائيل".
وقد رحّبت مؤسسات فلسطينية ومبادرات دولية لحركة المقاطعة (BDS) بهذا الموقف، معتبرة أنه اختراق نوعي في جدار الدعم الأوروبي الضمني لـ"إسرائيل"، ويؤكد أن الحملة الدولية للمقاطعة لم تعد محصورة في الأوساط الأكاديمية والنشطاء، بل بدأت تجد طريقها إلى مؤسسات راسخة داخل المجتمعات الغربية.
الاحتلال تحت الحصار الشعبي: تصاعد جبهات المقاطعة
منذ اندلاع الحرب على غزة في أكتوبر 2023، تعززت حملات المقاطعة للعدو الغاشم على مستويات متعددة، فإلى جانب حركة BDS التي تقود حملة عالمية ضد الاحتلال، أعلنت جامعات، اتحادات طلابية، شركات فنية، ومؤسسات إعلامية انسحابها من شراكات أو فعاليات مع الجانب الإسرائيلي، احتجاجاً على الفظائع المرتكبة في غزة.
ويمكن القول إن المقاطعة باتت تمثل السلاح الأبرز في يد الشعوب لمحاسبة "إسرائيل" في ظل غياب إرادة سياسية حقيقية لدى معظم الحكومات الغربية، كما أنها أداة فعالة في الضغط الاقتصادي والسياسي، أثبتت جدواها في حالات تاريخية مشابهة، كما حدث مع نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.
المساعدات المسرحية في مقابل المقاطعة الجادة
في خضم هذا المشهد المتناقض، يظهر أمامنا مساران: الأول، تمثّله الولايات المتحدة وحلفاؤها، ممن يحاولون ترميم صورتهم عبر مساعدات إنسانية موسمية لا تعالج أصل المأساة، بل توظفها لمصلحة أجندات سياسية مشبوهة، والثاني، تمثّله الشعوب الحرة والنقابات والمؤسسات المدنية، التي بدأت تترجم غضبها إلى فعل سياسي واقتصادي حقيقي، كما فعل اتحاد العمال في النرويج.
في النهاية، إن المعركة من أجل غزة لم تعد فقط معركة عسكرية أو سياسية، بل باتت معركة ضمير عالمي، وكل موقف شعبي واعٍ، كالمقاطعة، هو بمثابة تصويت ضد الاحتلال، وضد النفاق، وضد سياسة الكيل بمكيالين.
والسؤال المطروح اليوم: هل نكتفي بمساعدات تُسقِطها الطائرات، أم نعمل على إسقاط منظومة الظلم نفسها؟ الجواب، كما يبدو، آخذ في التشكل... من النرويج، إلى كل ضمير حي.