الوقت- «نحن نحطم أجساد أطفال غزة، وعقولهم، نحن نجوعهم، نحن متواطئون»، بهذه الكلمات الحادة التي تخترق جدران الصمت الدولي، عبّر الدكتور مايكل راين، المدير التنفيذي لبرامج الطوارئ في منظمة الصحة العالمية، عن المأساة التي تتكشف فصولها في غزة، بعد شهرين من الحصار الكامل وتجدد الضربات الإسرائيلية.
من مقر المنظمة في جنيف، وقف راين أمام الصحفيين، لا ليقدّم تقريراً تقنياً، بل ليصرخ، قالها وهو يغالب غضبه: «بصفتي طبيباً، أنا غاضب، هذا لا يُحتمل»، أرقام سوء التغذية في تصاعد، أمراض قاتلة تنتشر بين النساء والأطفال، والكارثة تتعاظم بلا كوابح.
وفي ظل هذا الواقع، وصف المدير العام للمنظمة، تيدروس أدهانوم غبريسوس، الوضع في غزة بـ"الكارثي"، مؤكداً أن قرابة مليوني شخص يعانون الجوع، بينما تواجه المنظمة نفسها أزمة تمويل "هي الأكبر في تاريخها".
غزة تلتهم أبناءها: "شهقة الجوع الأخيرة"
على الأرض، تتجاوز المأساة الإحصاءات، أحمد النجار، طفلٌ في الحادية عشرة، خرج من خيمته حافي القدمين، يحمل بضع علب غذاء وكيس دقيق نادر، لم يكن يعلم أن لحظة فرحه القصيرة ستُختتم بصرخة ألم وشظية تخترق جسده الصغير.
تقول والدته، نجلاء النجار، لـ«القدس العربي»: «كان يحلم بصحن رز وسكر... قال لي نفسي آكل زي زمان»، اليوم، يرقد أحمد بين الحياة والموت، في مشفى ميداني فقير، منهكًا من الجوع والرصاص معًا.
مجاعة ممنهجة.. وخبزٌ مغطّى بالدوْد
في خيام النزوح قرب دير البلح، تحمل أم هناء كيسًا من الدقيق المليء بالحشرات، قائلة: «هذا موت مش طحين، نطعمهم الجوع؟ ولا نطعمهم الدود؟»، قصص مماثلة تكررت لعشرات الأمهات، والخبز ـ إن وُجد ـ بات يباع بسعر خيالي، وصل إلى 50 شيكلًا (13 دولارًا) لأربعة أرغفة.
في السوق، يقول الحاج أبو رمزي: «ما شفت بحياتي رغيف بثمن الذهب. الجوع كافر، والكرامة صارت سلعة».
منظمة الصحة العالمية: انهيارٌ صحي شامل
وفق بيانات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، تم تسجيل أكثر من 10 آلاف حالة سوء تغذية شديدة بين الأطفال، بينها 1600 حالة حادة جدًا، هذا بخلاف عشرات آلاف الحالات التي تُبلغ عنها مراكز طبية منهكة ومخيمات خالية من الغذاء والدواء.
مدير برامج الصحة في المنظمة أكد أن «سوء التغذية يؤدي إلى انهيار المناعة»، ما ساهم في ارتفاع حالات التهاب السحايا والرئة، وخاصة بين النساء والأطفال.
وفي حديث لـ«القدس العربي»، قال عبد الكريم السوسي، المتطوع في الهلال الأحمر: «الناس يشربون مياه غير صالحة، بعضهم يغلي مياه البحر، حالات الإسهال والفيروسات تنتشر كالنار في الهشيم».
"إسرائيل تستخدم الجوع كسلاح"
منظمات حقوقية، بينها «هيومن رايتس ووتش»، أكدت أن "إسرائيل" تستخدم الجوع كوسيلة حرب، باستهدافها المتكرر للمخابز، شاحنات الإغاثة، ومراكز الإيواء، القصف لم يستثنِ حتى مستودعات الأونروا.
ويقول المحلل السياسي إياد جودة: «ما يجري في غزة هو تجويع ممنهج لخلق بيئة غير قابلة للحياة ودفع السكان للهجرة القسرية، هذه جريمة حرب مكتملة الأركان».
"رغيف الصمود" ومأساة الصغار
معمر (9 سنوات) تجلس أمام خيمتها تنتظر وجبة قد لا تأتي، عبيدة بريكة، يضع نصف رغيف يابس تحت الشمس ليُصبح طريًا، يقول: «لو في شوية لحم كان صار زاكي»، طعامهم من البارحة، وماؤهم ملوث، لكنهم يعيشون على الأمل المتآكل.
أمجد الشوا: قطاع غزة أمام خطر إبادة بطيئة
أمجد الشوا، مدير شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية، تحدث لـ«القدس العربي» قائلًا: «الوضع وصل إلى ما بعد الكارثة، 2.3 مليون شخص يواجهون الجوع، وعشرات آلاف الأطفال مصابون بسوء تغذية شديد، إذا لم تُفتح المعابر فورًا، سنشهد مجازر صامتة».
وأشار الشوا إلى نقص حاد في الأدوية والمياه والوقود، ما يهدد بشلل تام للقطاع الصحي والإغاثي، «أيام قليلة تفصلنا عن توقف التكايا، آخر مصدر للطعام، أما المستشفيات، فبعضها يطفئ أنواره قريبًا».
صرخة العالم.. وصمت المعابر
منظمة الصحة العالمية دقّت ناقوس الخطر، لكن المعابر لا تزال مغلقة، والضمير العالمي لا يزال مرهونًا بالمصالح، السؤال اليوم ليس عن عدد الضحايا، بل عن قدرة العالم على مواجهة صورهم من دون أن ينهار أمام مرآته، فإذا كانت أجساد أطفال غزة تتحطم، فهل سيتحرك العالم قبل أن تتحطم إنسانيته بالكامل؟