الوقت - تقف حكومة طالبان، التي تربعت على عرش السلطة في أفغانستان منذ أغسطس 2021، على مفترق طرق تحيط به أسوار العزلة الدولية وتطوقه قيود العقوبات الاقتصادية، ما جعلها تتلمس منافذ عبور تبقي على شريان الحياة بينها وبين العالم وتنعش اقتصادها المتعثر، وفي خضم هذه الدوامة من التحديات، برزت ممرات العبور الإيرانية كدرة نفيسة في تاج الخيارات المتاحة لكابل، حتى غدت الشريان الحيوي النابض الذي يغذي الجسد الاقتصادي الأفغاني.
وابتغاءً لهذه الغاية، حطّ وفد من وزارة النقل والطيران في حكومة طالبان رحاله على أرض إيران مؤخراً، يتقدمه مدير التخطيط والبحوث بالوزارة، مستهدفاً استجلاء آفاق تطوير البنى التحتية للعبور، وقد تمحورت الزيارة حول استكشاف الميدان واستشراف الأراضي المواتية لتوسيع شبكات النقل العابر، وتوطيد أواصر التعاون اللوجستي بين البلدين.
ووفقاً لما أفصح عنه بيان وزارة النقل في حكومة طالبان، تندرج هذه الزيارة ضمن مساعٍ حثيثة ترمي إلى الارتقاء بقدرات العبور والترانزيت، وتذليل سبل حركة الشاحنات، وتعزيز التعاون الإقليمي في قطاع النقل، وأبان مسؤولو الوزارة أن الوفد المنتدب سيتداول مع نظرائه الإيرانيين سبل تطوير البنى التحتية المشتركة للعبور، والنهوض بمستوى الخدمات في المنافذ الحدودية، وقد أعربت وزارة النقل الأفغانية عن تطلعها إلى أن تفضي هذه الزيارة إلى اتفاقيات عملية، واستثمارات مشتركة في قطاع النقل البري بين أفغانستان وإيران.
وقد سبق هذه الخطوة وصول وفد اقتصادي يضمّ محافظ خراسان الجنوبية وكبار أركان وزارة الطرق والتعمير الإيرانية، يتقدمهم نائب وزير الخارجية للشؤون الاقتصادية الإيرانية، إلی المحافظات الغربية الأفغانية بما فيها هرات وفراه، حيث تباحثوا مع المسؤولين المحليين، وقد صرح إسماعيل بقائي، الناطق باسم وزارة الخارجية الإيرانية، بأن غاية الزيارة كانت استجلاء آخر مستجدات القدرات الصناعية والتجارية في تلك المناطق، واستشراف سبل توطيد العلاقات بين البلدين.
كما عقد “صدر أعظم عثماني”، نائب وزير الزراعة في حكومة طالبان، وعلي رضا بيكدلي، سفير إيران لدى كابل، يوم الإثنين (الأول من أبريل/نيسان)، لقاءً أكدا خلاله على ضرورة توثيق عرى التعاون الثنائي في ميادين الزراعة، وتربية المواشي، وتبادل التقنيات، والصادرات، والاستثمار، وتدارسا سبل الارتقاء بالعلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين المتجاورين.
أهمية ممرات العبور الإيرانية لأفغانستان
تجابه أفغانستان، بوصفها دولةً حبيسةً ترزح تحت نير العقوبات الدولية، تحديات جسيمة في تصدير ثرواتها المعدنية وبضائعها، وهي ترنو ببصرها إلى قدرات جيرانها للفكاك من هذا الحصار الجغرافي الخانق.
وبمقدور حكومة طالبان، من خلال الاستفادة من المسارات السككية الإيرانية، أن تعزز من صادراتها من خام الحديد والنحاس والليثيوم وغيرها من الكنوز المعدنية الوفيرة، وأن تلبي شطراً من احتياجاتها المالية دون الارتهان للمؤسسات الغربية، ونظراً للعقوبات التي تكبّل أيديها، تواجه أفغانستان عقبات جمة في استقطاب الاستثمارات الأجنبية لقطاع التعدين، ما يجعل تحقيق عائدات سريعة عبر التصدير أمراً لا محيد عنه، غير أنها تقف عاجزةً عن تحقيق مآربها دون منفذ مباشر إلى المياه المفتوحة.
وتمدّ إيران، بحدودها المشتركة المترامية مع أفغانستان وبنيتها التحتية المتطورة من سكك حديدية وطرق وموانئ، بما في ذلك ميناء تشابهار، يد العون لتوفير مسلك ملائم لتصدير الموارد المعدنية والمنتجات الزراعية وسائر السلع الأفغانية إلى الأسواق العالمية، ويمثّل خط سكة حديد خواف-هرات، بوصفه مشروعاً استراتيجياً، جسراً يتيح لأفغانستان الوصول إلى شبكات النقل الدولية الإيرانية وما وراءها، امتداداً إلى الموانئ الجنوبية الإيرانية على ضفاف الخليج الفارسي، وتفتح المسارات السككية الإيرانية طريقاً مباشراً وميسور التكلفة إلى الأسواق العالمية، ما يغني أفغانستان عن المسالك الأكثر التواءً ووعورةً عبر الأراضي الباكستانية.
وبالنسبة لحكومة طالبان، لا تمثّل هذه المعابر مجرد خيار عابر، بل هي ضرورة حيوية لا غنى عنها، فالبنية التحتية للسكك الحديدية الإيرانية عند ثغور الحدود تيسّر حالياً انسياب البضائع، ومع تطوير شبكات السكك الحديدية، ستغدو تكلفة نقل البضائع بين آسيا الوسطى وأفغانستان وإيران أكثر يسراً.
ويحمل الارتهان المتزايد لأفغانستان للمسارات الإيرانية في طياته تداعيات استراتيجية بعيدة المدى، فبربط اقتصادها بشبكة العبور الإيرانية، توثّق أفغانستان، دون أن تقصد، عرى روابطها الاقتصادية والسياسية مع طهران، ويمكن لهذا المنحى أن يقلب موازين القوى الإقليمية، ولا سيما في ظل مساعي القوى الغربية لإقصاء طالبان من المحافل الدبلوماسية، وبما أن أي اضطراب في هذه المسارات قد يلقي بالاقتصاد الأفغاني الهش في أتون أزمات أشدّ وطأةً، فإن طالبان باتت تعوّل بشكل متزايد على تنمية وتوطيد العلاقات الاقتصادية والعبورية مع طهران.
وعلى الرغم من وطأة العقوبات الأمريكية، لا تزال إيران تمتلك شبكةً وارفةً من المسارات التجارية النابضة بالحياة التي يمكن أن تشكّل فرصةً ذهبيةً لكابل، فقد أتاحت مرونة إيران في مواجهة العقوبات أرضيةً راسخةً نسبياً لعبور البضائع، وهو أمر يكتسي أهميةً بالغةً لحكومة كطالبان تعيش في ظل عزلة دولية خانقة، وقد حدت هذه المزايا بحكومة طالبان إلى النظر بتزايد إلى إيران كشريان حيوي ينبض بالحياة الاقتصادية، والتركيز بعناية فائقة على تطوير أواصر هذا التعاون في برامجها الاقتصادية والتجارية.
الإسهام في تعزيز شرعية طالبان
فضلاً عن المزايا الاقتصادية الجمة، يمكن لاستثمار ممرات العبور الإيرانية أن يمدّ طالبان بعون سياسي في توطيد أركان مكانتها كحكومة قادرة على تسيير دفة التجارة الخارجية والتفاعل الاقتصادي، ومن شأن ذلك أن يرسّخ شرعية طالبان الداخلية بين أوساط الطبقات التجارية والاقتصادية في أفغانستان، ويفضي إلى استقرار هذه الحكومة نسبياً في ربوع البلاد، وعليه، فإن التعاون العبوري مع إيران ليس مجرد خيار اقتصادي لحكومة طالبان، بل هو أداة محورية لترسيخ الشرعية الداخلية، وتوسيع رقعة المناورة في المحافل التفاوضية السياسية مع الدول الأخرى.
كما أن استحداث فرص تجارية عبر هذه الممرات العبورية، من شأنه أن يسهم في انتعاش الأوضاع الاقتصادية في أفغانستان، وخلق فرص عمل، وزيادة الإيرادات من العملة الصعبة، وكلها مقومات حيوية لاستمرارية حكومة طالبان.
وعلى الرغم من العقبات الجيوسياسية الماثلة، فإن التعاون العبوري بين إيران وأفغانستان، إذا ما أحكمت إدارته، يمكن أن يفضي إلى ازدهار المناطق الشرقية من إيران والمناطق الغربية من أفغانستان، وتعزيز التبادلات التجارية، بل قد يتحول إلى حجر الزاوية في صرح التجارة الإقليمية، ما سيعود بالنفع الوفير على البلدين.
غير أن طالبان تحتاج، للاغتراف من معين هذه الفرصة، إلى تعاون مستدام مع إيران، وضمان أمن ممرات العبور، وإرساء آليات جمركية ولوجستية ناجعة، وبغياب هذه التدابير، قد يجابه أي استغلال للمرات الإيرانية اضطرابات أمنية أو قصوراً هيكلياً لن يجدي نفعاً فحسب، بل سيلقي بظلاله الثقيلة على الكاهل السياسي والاقتصادي.
وفي المحصلة النهائية، لم تعد البنية التحتية العبورية الإيرانية مجرد حاجة تجارية عابرة لأفغانستان، بل استحالت إلى ركيزة استراتيجية راسخة لمستقبلها الاقتصادي وحراكها السياسي، فقدرة طالبان على تصدير المعادن واستيراد السلع الضرورية، تزداد ارتهاناً يوماً إثر يوم باستدامة وتطوير هذه المعابر، وهو ارتهان سيلقي بظلاله حتماً على مستقبل المعادلات الاقتصادية والجيوسياسية في المنطقة، وعليه، فإن المسارات السككية والمعابر الحدودية الإيرانية لا تستحدث فرصاً اقتصاديةً جديدةً لأفغانستان فحسب، بل ستترك بصماتها الواضحة على مستقبل الاستقرار السياسي والتفاعلات الإقليمية لهذا البلد.