الوقت - في خضم الأجواء المضطربة التي لم تستعد فيها سوريا عافيتها بعد ولم ترسخ دعائم استقرارها، تنبري أنقرة لاقتناص الفرص السانحة وإبرام حزمة من الاتفاقيات ووثائق التعاون الجديدة، ساعيةً إلى ربط دمشق بفلكها أكثر من أي حقبة مضت.
تعجّ المنابر الإعلامية التركية هذه الأيام بالحديث عن التحولات السياسية في الساحة السورية، وإعادة توطين اللاجئين السوريين من الأراضي التركية، وكذلك الآفاق الاقتصادية الواعدة التي تلوح في أسواق دمشق وحلب واللاذقية أمام التجار والمصدرين والمقاولين الأتراك، بيد أن ثمة قضايا أخرى تُطرح على مائدة البحث خلف الأبواب الموصدة وفي أروقة الاجتماعات الأمنية بين أنقرة ودمشق، يتعلق أحدها فقط بكيفية تعامل الحكومة السورية الجديدة مع الأكراد والمؤسسات المرتبطة بحزب العمال الكردستاني.
وإلى جانب هذا الملف الأمني الشائك، تتصدر عدة ملفات بالغة الأهمية طاولة المباحثات، أبرزها:
أ) إعادة تشكيل بنية الجيش والقوات المسلحة والشرطة وأجهزة الاستخبارات السورية، وفقاً للنماذج التي يقترحها خبراء الحكومة التركية.
ب) تفويض إدارة المجال الجوي وتأمين مطاري دمشق وحلب إلى تركيا.
ج) تعزيز الوجود العسكري التركماني بنشر المزيد من الجنود والقادة في المناطق ذات الغالبية الكردية بسوريا، بهدف تقويض نفوذ المؤسسات المرتبطة بحزب العمال الكردستاني في البلاد.
د) فتح أسواق الأسلحة السورية أمام منتجات الصناعات العسكرية التركية.
هـ) توقيع اتفاقية بحرية جديدة مع الحكومة السورية لتوسيع نطاق المناورة العسكرية التركية في مياه شرق المتوسط.
تتربع هذه الأهداف على عرش أولويات حكومة أردوغان وجهاز الاستخبارات التركي “ميت” بقيادة إبراهيم كالن، في وقتٍ يدفع فيه بعض منظّري السياسة والاستراتيجيات الدفاعية الأتراك أردوغان نحو استعراض المزيد من مظاهر القوة في شرق المتوسط، مؤكدين مجدداً على عقيدة “الوطن الأزرق”.
استنساخ السيناريو الليبي على الأرض السورية
عقب انهيار نظام القذافي في ليبيا ووصول التيارات السياسية الإخوانية المقربة من تركيا إلى سدة الحكم في جزء من هذا البلد العربي الأفريقي ذي الثقل الاستراتيجي، أوفدت حكومة أردوغان بعثةً رفيعة المستوى ضمّت جاويش أوغلو وزير الخارجية آنذاك، وياشار غولر وزير الدفاع آنذاك، وإبراهيم كالن المتحدث باسم الرئاسة آنذاك، وهاكان فيدان رئيس جهاز الاستخبارات “ميت” آنذاك، إلى ليبيا لإبرام اتفاقية أمنية بحرية من شأنها أن تصوغ واقعاً جديداً في شرق المتوسط، وقد كُلل مسعى هذا الوفد بالنجاح، حيث تمخضت المباحثات عن وثيقة أثارت هواجس دول عدة كاليونان وقبرص ومصر، بل فرنسا أيضاً.
وعلى الرغم من أن مسألة الحكم في ليبيا لم تُحسم بعد، والأوضاع لا تزال غير مستقرة لمصلحة منافسي أردوغان، إلا أن توقيع تلك الاتفاقية الأمنية منح تركيا هامشاً أوسع للمناورة السياسية والعسكرية في شرق المتوسط، والآن تلوح في الأفق بوادر استنساخ هذا السيناريو مع سوريا عبر إبرام اتفاقية أمنية بحرية جديدة.
الأميرال جهاد يايجي، الذي ذاع صيته كمهندس رئيسي لعقيدة “الوطن الأزرق” من خلال صياغته لوثيقة تحمل الاسم ذاته، يطرح الآن على بساط البحث ضرورة إبرام اتفاق بحري مع سوريا.
وعلى الرغم من أن الأميرال يايجي بات في عداد المغضوب عليهم في دوائر أردوغان، واضطر للتنحي عن منصبه جراء ما لقيه من تجاهل وإقصاء، إلا أنه أسّس، بمعاونة نخبة من الشخصيات القومية التركية، مركز دراسات للذود عن عقيدة “الوطن الأزرق”.
يرتكز الأساس النظري والجيوسياسي لهذه العقيدة على مقولة: “إن تركيا، بوصفها دولةً ذات سواحل شاسعة، طالما أولت جُل اهتمامها لتعزيز قدراتها البرية وأغفلت البعد البحري، والآن آن الأوان لاستثمار المجال البحري في شرق المتوسط باعتباره وطناً أزرق يعزز مقومات القوة الوطنية”.
يقول يايجي في معرض حديثه عن أهمية اتفاقية الصلاحية البحرية بين تركيا وسوريا: “تجري حالياً دراسة جدوى إبرام اتفاق للصلاحية القضائية بين تركيا وسوريا، إن توقيع هذه الوثيقة من شأنه أن يوسّع رقعة وطننا الأزرق ويمنح سوريا فسحةً بحريةً، في مياه شرق المتوسط، تسعى الولايات المتحدة والتحالف الثلاثي المكون من اليونان و"إسرائيل" وقبرص الجنوبية، عبر مشاريع وإجراءات متنوعة، إلى حصر النفوذ التركي في خليج أنطاليا ومدّ طوق الحصار ليشمل السواحل السورية، إن مساندة فرنسا لهذا التحالف في الآونة الأخيرة ودخول حاملات الطائرات الفرنسية والأمريكية إلى المنطقة، يشي بعزم الغرب على التلويح بورقة القوة، لذا، لا ينبغي لتركيا أن تقف مكتوفة الأيدي إزاء هذه التطورات البحرية الجسام”.
لقد تصاعدت وتيرة القلق في أوساط صناع القرار السياسي والأمني في أنقرة بشأن المشهد المستجد في شرق المتوسط عندما التقى قادة قبرص الرومية بأحمد الشرع، الرئيس الجديد لسوريا، وذلك في وقتٍ تكنّ فيه تركيا عداءً مستحكماً لقبرص الرومية وتناصر فكرة إقامة دولة مستقلة للأتراك القبارصة.
وجّه مسؤولو جمهورية قبرص خلال لقائهم مع أحمد الشرع تحذيراً من مغبة الوقوع في شراك أردوغان، داعين إياه إلى تجنب اتخاذ خطوات بشأن القضايا الأمنية البحرية في شرق المتوسط، تتجاهل المصالح الأمنية للأطراف الأخرى.
بيد أنهم لم يكتفوا بالتلويح بالعصا في زيارتهم لدمشق، بل مدوا يد العون أيضاً قائلين: “تدركون أننا عضو راسخ في الاتحاد الأوروبي، إذا نهجتم نهج التعاون معنا ومع الأطراف الأخرى في شرق المتوسط، فسنبذل مساعينا لرفع العقوبات الأوروبية المفروضة عليكم”.
لا يساور القادة العسكريون أمثال الأميرال يايجي قلقاً من احتدام التوتر مع اليونان وقبرص، بل يميلون إلى رؤية أردوغان منخرطاً في معمعة صراع بحري.
وقد صرح قائلاً: “تركيا وسوريا دولتان متجاورتان تطلان على البحر المتوسط، ومن الضروري إبرام اتفاقية للصلاحية البحرية بينهما، ستكفل الاتفاقية البحرية بين تركيا وسوريا صون المصالح الاقتصادية والأمنية للبلدين، هذا الميثاق سيطوق رأس كارباز ويجهض التحركات غير المشروعة لقبرص الجنوبية، وبفضل هذا الاتفاق، ستظفر سوريا بمنطقة بحرية أرحب بنسبة 12.5 بالمئة، لم ترسم سوريا حتى الآن حدود مناطقها البحرية بوضوح، لكنها انتهكت مناطق الصلاحية البحرية التركية من خلال مناقصات النفط التي طرحتها في عام 2011، لذا فهذه فرصة سانحة لتدارك ما فات، إن الاتفاق المرتقب بين تركيا وسوريا، سيقلب موازين اللعبة في شرق المتوسط، ينبغي أن يتم ترسيم الحدود مع مراعاة مبادئ عدم الإغلاق والتفوق الجغرافي، ليس بوسع رأس كارباز أن يوصد الطريق أمام تركيا أو سوريا، لذلك يجب احترام مبدأ الحصار وأن يكون رأس كارباز محاطاً بالمياه الإقليمية”.
ووفقاً لمنظّر عقيدة “الوطن الأزرق”، فإن إضافة 9779 كيلومتراً مربعاً إلى النطاق البحري السوري، ستمكّن تركيا من تقويض نفوذ قبرص الرومية، وستُرسم حدود للمساحات المائية بين خليج الإسكندرون وسوريا، وستُمهّد السبيل للاعتراف بجمهورية شمال قبرص التركية، وهكذا يتجلى بوضوح أن تركيا قادرة في خضم هذه المناورات الاستراتيجية، على إشعال فتيل توترات جديدة باستغلال الموقع الجغرافي المتميز لسوريا.