الوقت - أمريكا في حيرة من أمرها، وسياستها الخارجية أصبحت متناقضة، وبمعنى الكلمة تفتقر إلى اتجاه واضح وقابل للتنبؤ، وفي العقود الأخيرة، ومع تغير الحكومة في الولايات المتحدة، خضعت السياسات الداخلية والخارجية للبلاد أيضًا للعديد من التغييرات، على سبيل المثال، اتخذ ترامب مسارًا مختلفًا عن سلفه أوباما، وبعده كان مسار بايدن مختلفًا عن مسار ترامب، لكن الوضع الآن مختلف تماما، وبتنا نشهد أهدافا متناقضة ونوعا من الارتباك في السياسة الخارجية الأمريكية خلال فترة قصيرة من تولي الرئيس منصبه، منذ دخول دونالد ترامب البيت الأبيض رئيساً، واجهت أمريكا مجموعة فوضوية من التوجهات المتناقضة في السياسة الخارجية.
فوضى ترامب
وتشير مواقف ترامب وأفعاله خلال الأشهر الثلاثة الماضية إلى أن الرئيس الأمريكي الحالي مستعد لتغيير السياسة الخارجية الأمريكية التقليدية بشكل كامل.
في الأشهر الثلاثة الماضية، أفسد ترامب العلاقات الأمريكية مع أوروبا، وتساءل عن التزام واشنطن تجاه حلف شمال الأطلسي، واتهم أوكرانيا بالهجمات الروسية، وقطع المساعدات العسكرية عن كييف، وانسحب من هيئات الأمم المتحدة الرئيسية، وبدأ حرب تعريفات جمركية عالمية، وأوقف المساعدات الأمريكية وتسليم المساعدات الإنسانية، وأعلن عن هدفه المتمثل في توسيع الأراضي الأمريكية على حساب التهديد بالاستيلاء على كندا وبنما وجرينلاند وغزة.
إن مجموع تصرفات ترامب يظهر أنه يسعى إلى إلغاء قواعد الاشتباك القديمة التي فرضتها الولايات المتحدة نفسها على النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية واستبدالها بقواعد جديدة، ولكن إلى أي مدى ستنجح الولايات المتحدة فعليا في تحقيق هذا الهدف؟
إن دعم حلف شمال الأطلسي والمؤسسات الدولية الغربية هو اتجاه كانت أمريكا نفسها رائدة فيه بعد الحرب العالمية الثانية، والآن يتساءل ترامب عن هذا الاتجاه برمته، ولعل السبب في ذلك هو أن الزعماء الأمريكيين رأوا خلال الأعوام القليلة الماضية أن الهيمنة العالمية لبلادهم في خطر، وهم الآن يسعون إلى استعادة أمريكا إلى مكانتها المهيمنة في العلاقات الدولية.
إن الفضاء متعدد الأقطاب العالمي، ونمو المكانة الاقتصادية للصين، وظهور قوى إقليمية جديدة في شرق آسيا، كلها علامات على تحول التوازن الدولي من أحادي القطب إلى متعدد الأقطاب، ولكن هل تستطيع الولايات المتحدة تعطيل النظام الحالي لمصلحتها؟
ملء الفراغ الأمريكي
وقد أثار نيكولاس باكولين، الخبير في كلية الحقوق بجامعة ييل والمدير السابق لمنظمة العفو الدولية في آسيا والمحيط الهادئ، هذا السؤال في مذكرة نشرتها مجلة فورين بوليسي: إذا ابتعدت الولايات المتحدة عن مصدري قوتها التقليديين: قيادتها للنظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية ومكانتها الاقتصادية باعتبارها الديمقراطية الأكثر تقدما في الغرب، ألا يعني هذا التراجع للبيت الأبيض فرصا جديدة للمنافسين الجيوسياسيين مثل روسيا والصين؟ بقطع المساعدات الأمريكية عن الدول الأفريقية، هل تحل الصين محل أمريكا في أفريقيا؟ هل تملأ روسيا الفراغ الأمريكي في المنظمات الدولية؟ والإجابة على هذه الأسئلة هي نعم بكل تأكيد، ولا شك أن أينما تتراجع أمريكا فإن دولاً أخرى سوف تحل محلها.
العودة إلى انعزالية مونرو
إن ما يبدو أنه يحدث، بالنظر إلى نهج ترامب، ووفقاً للعديد من الخبراء، هو أن أمريكا ترامب تعود إلى مبدأ مونرو، عقيدة من مبادئها الحفاظ على مسافة جيوسياسية من القارة الأوروبية، كما أن بعض أعضاء حكومة ترامب، بما في ذلك نائبه جي دي فانس، ووزير الدفاع بيت هيكساث، ينتقدون أوروبا أيضًا، وفي المناقشات الأخيرة بين أعضاء حكومة ترامب، سمعنا بعض المسؤولين في البيت الأبيض يعربون عن اشمئزازهم من الدعم المالي والاقتصادي الذي تقدمه أمريكا لأوروبا، ولكن من ناحية أخرى، لا يبدو أن جميع الساسة الأمريكيين في الكونجرس أو غيره من المؤسسات الحاكمة في الولايات المتحدة يتفقون مع عودة واشنطن إلى انعزالية مونرو، وتشكل هذه الخلافات نفسها داخل الولايات المتحدة حول كيفية مواجهة واشنطن لحلفاء أمريكا الأوروبيين أو تحديات الشرق الأوسط أحد الأسباب الرئيسية للتوجهات المتناقضة والمتعارضة في بعض الأحيان لمسؤولي إدارة ترامب.
تقلبات ترامب: ثلاثة أمثلة
على مدى الأشهر الثلاثة الماضية، سعت إدارة ترامب إلى معالجة ثلاث قضايا تتعلق بأوروبا وغرب آسيا، ولكن جميعها فشلت حتى الآن في تحقيق نتائج، إن التناقضات وعدم الاتساق في مواقف المسؤولين الأمريكيين هي أحد أسباب الجمود في تحقيق هذه الأهداف:
الفشل في وقف الحرب في أوكرانيا: قبل عودته إلى البيت الأبيض، وعد ترامب بأنه سيوقف الحرب بين روسيا وأوكرانيا خلال 24 ساعة، والآن، بعد حوالي 3 أشهر من تنصيبه، لا يزال هذا الوعد بعيد المنال، ولعل أحد أسباب الجمود في وقف إطلاق النار في أوكرانيا هو تعامل ترامب مع القضية، وتستند فكرة ترامب لوقف الحرب في أوكرانيا إلى علاقته الشخصية الوثيقة مع بوتين، إلا أن الساحة السياسية لها واقع مختلف، في الواقع، لم يتم الوفاء بالوعد بإنهاء الحرب على الفور فحسب، بل مع توقف المساعدات لأوكرانيا واتساع الفجوة بين البيت الأبيض وحلفائه الأوروبيين، أصبحت الولايات المتحدة الآن في موقف غامض، ومن ناحية أخرى، فشل ترامب في إقناع روسيا بقبول السلام.
فشل وقف إطلاق النار في غزة: على الرغم من وعد ترامب بتثبيت وقف إطلاق النار في غزة، إلا أن وقف إطلاق النار لم يستمر سوى بضعة أسابيع كنوع من المناورة الدعائية، قبل شهر، تفاخر ترامب بنجاحه في إقناع "إسرائيل" وحماس بقبول وقف إطلاق النار في غزة، وفي ذلك الوقت، أجرى الإعلامي المحافظ تاكر كارلسون مقابلة مع رئيس الوزراء القطري، وأعرب كلاهما عن سعادتهما بقدرة ترامب على التوسط في وقف إطلاق النار في غزة، ولكن هذا الثناء على الذات لم يدم طويلاً، فقد تم الآن انتهاك وقف إطلاق النار من خلال الهجمات العسكرية الإسرائيلية على غزة.
وأشار موقع "ميدل إيست آي" التحليلي في تقرير له إلى أن محللين ودبلوماسيين عرب يقولون إن استئناف الهجمات الإسرائيلية الواسعة يعني أن ترامب فشل في تعزيز الرواية القائلة بأن الولايات المتحدة قادرة على السيطرة على حليفتها "إسرائيل".
ومن ناحية أخرى، فشلت فكرة ترامب بشأن غزة، حتى داخل الدائرة الداخلية لترامب، كان هناك خلاف حول تفسير أفكاره فيما يتعلق بغزة، وكان السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام، أحد أقرب حلفاء ترامب، قد قال إن الولايات المتحدة ليس لديها مصلحة في تهجير الفلسطينيين واحتلال غزة، إلا أن فكرة ترامب بشأن احتلال غزة وتحويلها إلى منطقة سياحية هي نفس الفكرة التي طرحها صهره ومستشاره السابق جاريد كوشنر، لكن المعارضة لخطة ترامب بشأن غزة والإجلاء القسري لسكانها إلى دول أخرى في المنطقة تزايدت إلى حد يبدو معه من المستحيل تصور تنفيذها.
الأصوات المتعددة في البيت الأبيض ضد إيران: إن سياسة ترامب تجاه إيران تفتقر أيضًا إلى اتجاه واضح، وفي هذا الصدد، ذكرت صحيفة نيويورك تايمز أن إدارة ترامب بدأت بهدف بسيط: إجبار إيران على تفكيك برامجها النووية والصاروخية، لكن كبير المفاوضين في الحكومة الأمريكية خفف من حدة لهجته، ثم اضطر إلى التراجع.
بعد محادثات عُمان، نقلت وكالة الأنباء الأمريكية "سي إن إن" عن ويتاكر، المفاوض لدى ترامب ضد إيران، قوله إن إيران قد يُسمح لها بتخصيب اليورانيوم بمستوى منخفض - المستوى اللازم لتوليد الطاقة النووية - لكن النبرة الأمريكية تغيرت في الساعات الثماني والأربعين الماضية، وأعلن ويتاكر في رسالة على وسائل التواصل الاجتماعي أن "إيران يجب أن تتوقف عن تخصيب اليورانيوم وبرنامجها للأسلحة النووية وتدمره". وحسب مصادر مطلعة، فإن وايتاكر ونائب الرئيس فانس زعما في اجتماعات داخلية أن الإصرار على تفكيك برنامج إيران بالكامل سوف يتسبب في فشل المفاوضات، ولكن في المقابل، فإن والتز، مستشار الأمن القومي لترامب، وماركو روبيو، وزير خارجية ترامب، لا يزالان يتبنيان وجهة نظر قاسية تجاه إيران، وأكدا أن إيران لا ينبغي أن تمتلك القدرة على تخصيب الوقود النووي، وقد أدت هذه الرسائل المتناقضة ومتعددة الأصوات في الولايات المتحدة، أكثر من أي شيء آخر، إلى تكثيف عدم الثقة من جانب الجانب الإيراني، ومن غير المرجح أن يؤدي موقف واشنطن متعدد الأصوات ضد طهران إلى اتفاق دائم.