الوقت - تتربع المعارك الضارية التي احتدمت بين الأمة العربية والكيان الصهيوني، على عرش الأحداث المفصلية في تاريخ منطقة غرب آسيا المعاصر، فمنذ ملاحم القرن العشرين التي خاضت غمارها الجيوش العربية ضد الکيان الصهيوني في العقود الأولى لاغتصابه الأرض المقدسة، وصولاً إلى المواجهات المتأخرة التي تصدرت مشهدها كتائب المقاومة اللبنانية والفلسطينية، شهدت أنماط النزال واستراتيجياته ونتائجه تحولات عميقة الجذور.
ومن هذا المنظور، فإن تمحيص أوجه التماثل والتباين بين ملحمة غزة الأخيرة والمعارك السالفة بين الكيان الصهيوني والأمة العربية، يتيح لنا أن نعتبر النصر المؤزر للمقاومة الباسلة منارةً تاريخيةً وحدثاً فارقاً في مسيرة الصراع المصيري.
أوجه التشابه بين حرب غزة الأخيرة والمعارك السابقة بين العرب والكيان الصهيوني
1. الطبيعة العقائدية والسياسية للمواجهات
لقد ترسخت مجابهة الكيان الصهيوني والسعي الحثيث لتحرير الأراضي الفلسطينية السليبة، غايةً ساميةً وهدفاً أسمى لكل الملاحم البطولية التي خاضتها الأمة العربية وفصائل المقاومة في وجه المحتل المتغطرس.
فمن وطيس معارك عامي 1948 و1967، حيث هبّت الجيوش العربية المتآزرة بقيادة مصر لنصرة فلسطين، إلى صولات وجولات حماس والجهاد الإسلامي وحزب الله اللبناني المظفرة، ظلّ الدافع العقائدي النبيل والذود عن حياض القضية الفلسطينية المقدسة، شعلةً متقدةً لم يخبُ أوارها، ونبراساً متوهجاً لم يخفت ضياؤه.
2. دور القوى الخارجية
تتجلى من بين أبرز مظاهر التماثل بين ملحمة غزة الخالدة وسائر المعارك المصيرية التي خاضتها الأمة العربية ضد الكيان الصهيوني، تلك المساندة الظاهرة والمستترة التي قدمتها القوى الدولية لطرفي النزال. فقد برز في هذا المضمار، بجلاء لا يعتريه غموض، الدور الغربي المتغطرس، ولا سيما الأمريكي، في مؤازرة تل أبيب مؤازرةً شاملةً على كل الأصعدة، من السياسي إلى العسكري، ومن الاستخباراتي إلى الإعلامي والمالي، في نهجٍ ثابتٍ لم يتبدل.
وفي الضفة المقابلة، انبرى محور المقاومة الباسل متصدراً المشهد الإقليمي في دعم حماس، حيث آتى إسناده العسكري، في إطار استراتيجية "وحدة الساحات" المحكمة، ثماراً يانعةً في مجريات المعركة، مفضياً إلى تحقيق النصر المؤزر لمقاومة غزة الصامدة.
وفي خضم هذه الملحمة العظيمة، آثرت غالبية الدول العربية والإسلامية، ولا سيما الدول الخليجية، أن تقبع في ظلال الهامش، مكتفيةً بإطلاق العبارات الجوفاء والإدانات الخطابية العقيمة التي لا تتجاوز حدود اللسان، في مساعٍ واهية لوقف العدوان الغاشم.
3. الضغوط الدبلوماسية والاقتصادية
شهدت ساحات النزال بين العرب والكيان الصهيوني، قديماً وحديثاً، توظيفاً محكماً لسلاح العقوبات والضغوط الدبلوماسية في إدارة دفة الصراع، وإن تباينت طبيعة هذه الضغوط ومراميها.
ففي المضمار السياسي، وعلى الرغم من تمادي الولايات المتحدة في إشهار سيف النقض (الفيتو) بصورة متواترة وجائرة لإجهاض مساعي مجلس الأمن في لجم العدوان، انبرت هيئات دولية عديدة ودول شتى، منفردةً، لتسليط سياط الضغط الاقتصادي والسياسي على الكيان المتغطرس.
وقد تجلت هذه المساعي الحثيثة في قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان، وفي إدانة محكمة الجنايات الدولية لقادة الكيان ووسمهم بوصمة مجرمي الحرب، وفي تنامي موجة الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية المستقلة، ولا سيما في أرجاء القارة الأوروبية، وفي إصدار أحكام قضائية رادعة ضد جنود جيش الاحتلال في دول شتى كالبرازيل، وغير ذلك من الإجراءات المماثلة.
أما في ميدان الضغوط الاقتصادية، فبينما برز في المعارك الغابرة بين الجيوش العربية والكيان الصهيوني، قرار وقف تدفق النفط من الدول العربية كأبرز سلاح اقتصادي، تميزت الملحمة الأخيرة بما أحدثه أبطال اليمن من ضغط اقتصادي ساحق على الكيان الصهيوني، إذ أحكموا قبضتهم على شرايين الملاحة البحرية في البحر الأحمر وباب المندب، ما أفضى إلى شلل تام في ميناء إيلات الاستراتيجي في الأراضي المحتلة، وإلحاق خسائر فادحة بالتجارة الخارجية للكيان بلغت ثلث حجمها، في ضربة موجعة لاقتصاد الکيان المتهاوي.
تباينات ملحمة غزة الأخيرة عن المعارك السالفة بين العرب والكيان الصهيوني
1. طبيعة القوى المتصارعة
لئن اتسمت المعارك الغابرة بين الدول العربية (مصر وسوريا والأردن وغيرها) والكيان الصهيوني بطابعها الرسمي التقليدي، إذ كانت نزالاً بين جيوش نظامية وكيانات دولية معترف بها، فقد تجلت ملحمة غزة الأخيرة في صورة مغايرة كل المغايرة، حيث تصدرت المشهد فصائل المقاومة غير الحكومية، كحماس والجهاد الإسلامي وحزب الله، في صراعها المصيري مع الکيان الصهيوني.
2. المبادرة الهجومية الخاطفة لحماس
في حين درج الكيان الصهيوني في المعارك السالفة على تبوؤ موقع المعتدي المتغطرس، بينما يُرغم الفلسطينيون على الانكفاء إلى خنادق الدفاع، شهدت الملحمة الأخيرة انقلاباً جذرياً في موازين القوى، إذ أذهلت حماس العالم بهجومها الصاعق غير المسبوق على الأراضي المحتلة، مستحوذةً على زمام المبادرة في ضربة أسطورية هزت أركان الكيان، ويجسّد هذا التحول المفصلي في مسار المواجهة، تطوراً نوعياً في الاستراتيجيات العسكرية لكتائب القسام، وتعاظماً جلياً في قدراتها القتالية.
3. الاستراتيجيات العسكرية والتكتيكات القتالية
إذا اعتمدت الجيوش العربية في معاركها الغابرة على الحرب النظامية بعتادها الثقيل، فقد تألقت ملحمة غزة الخالدة بما أبدعته كتائب القسام من فنون الحرب غير المتكافئة وقتال المدن، متسلحةً بصواريخ تشقّ عنان السماء، وطائرات مسيّرة تزلزل حصون الکيان، وعبوات ناسفة تدك معاقله، مع توظيف بارع لشبكة الأنفاق واستراتيجية محكمة لاستنزاف قواه.
4. الحاضنة الشعبية والتلاحم الجماهيري
تميزت المقاومة الباسلة، بفضل تجذرها العميق في نسيج المجتمع الفلسطيني في غزة والضفة، بالتفاف جماهيري منقطع النظير، متفوقةً بذلك على الجيوش النظامية التي كبّلتها القيود البيروكراطية وأثقلتها السياسات الداخلية.
وقد مكّن هذا الدعم الشعبي المتين المقاومةَ من الثبات، في وجه الهجمة الصهيونية الغاشمة والاحتلال البغيض لغزة، متحديةً مخططات الکيان الخبيثة في خلق مأساة إنسانية ومجاعة وكارثة صحية لإركاع الناس وفرض شروط الهدنة المذلة، ما أفضى إلى تحطم آمال الکيان على صخرة الصمود الأسطوري، كما أتاح هذا النفوذ والتأييد الجماهيري الجارف للمقاومة، القدرة على رفد صفوفها بالأبطال وإعادة تنظيم كتائبها بسرعة خاطفة.
5. التطور التكنولوجي للمقاومة
على النقيض من الجيوش العربية التي ارتهنت للسلاح المستورد، تألقت كتائب القسام في تصنيع غالبية عتادها الحربي في مصانعها السرية، من صواريخ تدك معاقل الکيان، ومسيّرات تجوب سماءه، وأسلحة تحطّم دروعه، معتمدةً على سواعد أبنائها وعقول علمائها في التصنيع المحلي والإبداع التكنولوجي.
6. دور وسائل التواصل الاجتماعي والتغطية الإعلامية
برز في هذه الملحمة الخالدة دورٌ محوري لمنصات التواصل الاجتماعي، في نقل وقائعها وتصوير مشاهدها، فحين أحكم الکيان قبضته على منافذ غزة، حائلاً دون وصول الإعلاميين إليها، ومتعمداً استهداف حملة الأقلام وناقلي الحقيقة، غدت المنابر الرقمية منارةً تشعّ بالحقيقة من قلب المعركة، وتفضح جرائم المحتل أمام العالم أجمع.
التداعيات السياسية والعسكرية
أحدثت ملحمة طوفان الأقصى، وما تلاها من صمودٍ أسطوري لأهل غزة العزة على مدى ما يناهز خمسة عشر شهراً، انقلاباً جذرياً في موازين القوى السياسية والعسكرية في المنطقة برمتها، وقد ألقت هذه الملحمة التاريخية بظلالها على مسارات عدة، منذرةً بتحولاتٍ عميقة في منظومة أمن الكيان الصهيوني المتداعية، والنسيج السياسي والاجتماعي في الأراضي المحتلة، ومستقبل الضفة الغربية الثائرة، وشبكة علاقات الكيان الصهيوني مع محيطه الإقليمي والدولي.
وقد تجلت انتصارات المقاومة الباسلة، متفوقةً على كل تجارب الجيوش العربية السالفة، في صورةٍ مشرقة تستنير بها الأجيال، وتستلهم منها الدروس والعبر في مسيرة التحرير المظفرة.
يمکن شرح إنجازات المقاومة في مواجهة الکيان الصهيوني مقارنةً مع تجارب الجيوش العربية في ما يلي:
1. المرونة التكتيكية والاستراتيجية غير المتماثلة
تألقت كتائب القسام، بما أبدعته من فنون القتال المبتكرة، في إلحاق خسائر موجعة بالكيان الصهيوني تزلزل أركانه، ففي حين تجرعت الجيوش العربية في معاركها التقليدية كؤوس الهزائم المريرة، وفقدت شبراً من أراضيها، أو رضخت - كمصر - لمعاهدات سلام باهظة مفروضة عليها؛ حققت المقاومة الباسلة انتصارات خالدة باعتمادها فنون الحرب غير المتماثلة (من حرب الأنفاق المظلمة، والمسيّرات المظفرة، والصواريخ الباترة).
ولم تكتفِ المقاومة بإذلال الکيان وإرغامه على الانسحاب المخزي من غزة العزة - مخالفةً بذلك تبجحات قادة تل أبيب حول احتلال دائم لشمال القطاع - بل أجبرته صاغراً على إطلاق سراح مئات الأسرى من سجونه.
2. تحقيق الردع النفسي والاستراتيجي
أبدعت المقاومة، مسنودةً بأركان محور المقاومة من حزب الله وأنصار الله، في تحقيق معادلة ردع استراتيجي محكمة، إذ أمطرت عمق الكيان بوابل من الصواريخ، مستهدفةً مراكزه الحيوية ومعاقله الاقتصادية، وهو إنجاز عجزت عنه الجيوش العربية في معارك 1967 و1973، حين لم تفلح في فرض تهديد مستدام بهذا المستوى من النجاعة والفاعلية.
3. توظيف الإعلام والفضاء الرقمي
تألقت المقاومة في توظيف منصات الإعلام والفضاء الرقمي لنشر الرواية الفلسطينية في أرجاء العالم، في حين افتقرت الجيوش العربية في معاركها الغابرة إلى الأدوات الناجعة للتأثير في الرأي العام العالمي.
4. التضامن الشعبي العالمي
كشفت ملحمة غزة الخالدة عن قدرة المقاومة على استنهاض همم الشعوب وتحريك ضمير الإنسانية، ولا سيما عبر حملات نصرة الحق وإحقاق العدل، وقد شكّل التضامن العالمي الجارف مع قضية تحرير فلسطين ومناهضة الاحتلال الغاشم - وخاصةً في معاقل الغرب، حيث تفجر أعظم حراك طلابي شهدته الولايات المتحدة منذ ستينيات القرن المنصرم - منعطفاً تاريخياً في تدويل القضية الفلسطينية، وإماطة اللثام عن مآسي شعب يكابد ظلم المحتل وجبروته.
5. ديمومة المقاومة وصمودها
اضطرت الجيوش العربية للانكفاء إثر نكساتها العسكرية، ولكن كتائب القسام وفصائل المقاومة الأخرى تمكنت من الحفاظ على كيانها السياسي وقوتها العسكرية، رغم شراسة الهجمة الصهيونية وضراوتها.
خاتمة المطاف
تميزت ملحمة غزة الخالدة بفوارق جوهرية عن المواجهات التقليدية بين العرب والكيان الصهيوني، من حيث طبيعة القوى المتصارعة، وفنون القتال، والتطور التقني للمقاومة، وقد حققت المقاومة إنجازات غير مسبوقة في إرساء معادلة الردع وحشد التأييد الشعبي والدولي، متفوقةً بذلك على تجارب الجيوش النظامية.
وتعكس هذه الانتصارات تحولاً جذرياً في نمط المقاومة، من الحروب التقليدية إلى المواجهة غير المتكافئة والحرب الشعبية الشاملة، ولا ريب أن هذه التحولات المفصلية ستُلقي بظلالها على مستقبل الصراع في المنطقة برمتها، مؤذنةً بفجر جديد من عصور النصر المبين.