الوقت - في حين تعلقت الآمال بأن تخمد نيران الجرائم الصهيونية ضد أبناء فلسطين إثر إعلان الهدنة في غزة، وإذ بحكومة نتنياهو تؤجج أوار الحرب في بقعة أخرى من الأراضي المحتلة.
وفي هذا المضمار، اكتسى المشهد الأمني في مخيم "جنين"، شمال الضفة الغربية، بغلالة من التوتر المحموم في الآونة الأخيرة، جراء الهجمات المتواترة التي يشنها جيش الاحتلال وأجهزة السلطة الأمنية، ناهيك عن إحكام طوق الحصار المضروب حوله، وسدّ منافذ الإمداد الغذائي إليه.
حيث يواصل جنود الاحتلال، لليوم الخامس على التوالي، عدوانهم الغاشم على الضفة الغربية، متبعين في ذلك أساليب الفتك والتنكيل ذاتها التي انتهجوها في عدوانهم على غزة.
في غمار الغارات الصهيونية الغاشمة على بلدة "ميثلون" في جنين، سقط ثلة من الجرحى وسط معارك ضارية تستعر في أرجاء المنطقة، وقد عمد المحتلون إلى تكثيف حضورهم العسكري في أنحاء الضفة الغربية كافةً، وفي تزامن لافت، شنت قوات الاحتلال غاراتها على دور الأسرى في مخيم جنين، ممن يُرتقب تحررهم في إطار صفقة تبادل الأسرى والتهدئة في غزة.
ولم يمر عدوان المحتلين دون رد صاعق، إذ هبّ المقاومون الفلسطينيون لتلقين الکيان درساً قاسياً، وقد أفصحت سرايا القدس - جناح جنين المنضوي تحت راية الجهاد الإسلامي - أن مجاهديها، بتضافر الجهود مع كتائب القسام - الذراع العسكري لحماس - وسائر المقاومين، قد خاضوا ملاحم بطولية مع قوات الاحتلال على شتى محاور مخيم جنين.
وأفاد بيان كتائب جنين بأن المجاهدين أمطروا جنود الاحتلال بسيل من نيران المقاومة، وفجروا العبوات الناسفة المضادة للأفراد في مسارات جنود الکيان، ما أوقع في صفوفهم عدداً من الإصابات، وقد أصدرت الأمم المتحدة بياناً استنكرت فيه لجوء "إسرائيل" إلى أساليب حربية فتاكة.
لقد انطلقت العملية في الضفة الغربية، التي أسماها المحتلون بـ"الجدار الحديدي"، يوم الثلاثاء الماضي، بحشد هائل من قوات الجيش والشرطة وجهاز الأمن الداخلي (الشاباك).
وقد اقتحمت هذه القوات الغازية جنين مدججةً بالمدرعات والجرافات والطائرات المسيّرة، ووفقاً للتقارير الواردة، فقد ارتقى إلى العلا عشرات الشهداء وسقط مثلهم جرحى جراء المجازر الصهيونية حتى اللحظة، ولم تحدد تل أبيب سقفاً زمنياً لعمليتها العدوانية، بيد أن بعض مسؤولي هذا الكيان، صرحوا بأن العملية ستمتد وقد تطول لأشهر.
وتتباين التحليلات السياسية والعسكرية في استقراء مرامي "إسرائيل" من جولتها العدوانية الجديدة على الضفة الغربية وجنين، في أعقاب اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة.
مواجهة تنامي قوة المقاومة الفلسطينية بعد نصرها المؤزر
يروم الكيان الصهيوني تقويض دعائم المقاومة في جنين، ذلك المعقل الشامخ الذي يُعد درة معاقل الفصائل الفلسطينية، وتشهد الضفة الغربية في هذه الآونة حضوراً متنامياً لكتائب المقاومة التي تزداد منعةً وبأساً مع مرور الأيام، مستظلةً بدعم وإسناد من حركتي حماس والجهاد الإسلامي، ما يؤرق مضاجع قادة تل أبيب ويقضّ مضاجعهم.
وفي خضم الإفراج المرتقب عن كوكبة من الأسرى الفلسطينيين من غياهب سجون المحتل، تتصاعد هواجس الصهاينة من انضمام هؤلاء الأحرار إلى صفوف المقاومة، ما يعزز شوكة الجبهة المناوئة للكيان الصهيوني. فها هو نتنياهو وزمرته، ممن اكتووا بنار ضربات المقاومة في غزة ولن تبرح من ذاكرتهم ملحمة طوفان الأقصى، يتوجسون خيفةً من استفحال أمر هذه الفصائل في الضفة الغربية، ذلك أن اشتعال جبهة ثانية في الأراضي المحتلة، من شأنه أن يجعل أمن المستوطنين في مهب الريح.
ولذا تسعى حكومة نتنياهو، عبر هجماتها الضارية على جنين وسائر أرجاء الضفة الغربية، إلى استئصال شأفة المقاومة الفتية، بيد أن هذا المخطط قد سبق اختباره في غزة، فارتد على أصحابه بنقيض مقصودهم، إذ تمكنت حماس والجهاد الإسلامي - اللتان كانتا تناجزان الکيان المحتل بعتاد متواضع - من تصنيع الأسلحة المحلية، من صواريخ ومسيّرات، وعليه، فإن الصهاينة لن يظفروا بطائل في الضفة الغربية أيضاً.
إن جيش الاحتلال، الذي تداعت أركانه وتصدع بنيانه في حرب غزة، يبتغي من عملياته في الضفة الغربية استعراض عضلاته وترميم هيبته المتآكلة، ويسعى الكيان، عبر هذه العمليات، إلى بث رسالة للفصائل الفلسطينية، مؤداها أنه لا يزال قادراً على شن حملات عسكرية واسعة النطاق حتى في ظل اتفاقيات وقف إطلاق النار.
إن استنجاد جيش الاحتلال بالمروحيات والمدرعات المتطورة في جنين، إنما يرمي إلى الإيذان بتحول جذري في قواعد المواجهة بالضفة الغربية، وتشير آراء المراقبين إلى أن ألسنة نيران العمليات العسكرية ستمتد، في غضون الأيام القادمة، من جنين لتلتهم سائر أرجاء الضفة الغربية.
وفي منحىً آخر، تتجلى العمليات العسكرية الإسرائيلية تتويجاً لمخطط أحزاب اليمين المتطرف، الساعي إلى بسط نفوذ هذا الكيان على شطر من الضفة الغربية، فها هي حكومة نتنياهو تقرّ قانون توسيع رقعة الاستيطان في الضفة الغربية، متوخيةً ضمّها إلى الأراضي المحتلة، متذرعةً بالعمليات العسكرية لإرغام الفلسطينيين على الرحيل القسري عن ديارهم.
ولعل هذه العمليات تمثّل باكورة مخطط احتلال القدس الشريف وإعلانها عاصمةً للكيان الصهيوني، وهو ما قد يتبلور في ظل ولاية ترامب الثانية، الذي لم يتوان يوماً عن مؤازرة هذا المسعى الخبيث.
ويذهب الخبراء إلى أن تل أبيب تروم، من وراء عملياتها في جنين، صياغة واقع جديد في الضفة الغربية يقوّض أركان حل الدولتين، وفي خضمّ تصاعد الضغوط الدولية المطالبة بإقامة الدولة الفلسطينية، يسعى الصهاينة حثيثاً إلى تمزيق أوصال الأرض الفلسطينية، وتقويض دعائم إقامة دولة مستقلة ذات سيادة (من وحدة الأرض وتكاملها).
توسيع نطاق السيطرة الأمنية في ظل تحرير الأسرى والمناخ الثوري في الضفة الغربية
قد يکون الهدف من هذه العمليات في الضفة الغربية، تعزيز الهيمنة الأمنية والعسكرية لجيش الاحتلال في هذه المنطقة، ولا سيما في المناطق التي تشهد تصاعداً في العمليات البطولية ضد جنود الاحتلال ومستوطنيه.
وتسعى حكومة نتنياهو، عبر بث الرعب في النفوس وزرع الفزع في القلوب، إلى فرض طوق حديدي يحول دون ابتهاج أهل الضفة الغربية بتحرر أسراهم، فمشاهد الفرح التي تغمر الشعب الفلسطيني، رغم فداحة الخسائر وهول الدمار في غزة، تنزل كالصاعقة على رؤوس قادة تل أبيب، الذين يضيقون ذرعاً بهذه المظاهر.
وفي هذا المضمار، كشف "عصري فياض" من مخيم جنين لـ "العربي الجديد"، أن قوات الاحتلال أرغمت الأسر المكلومة على توقيع صكوك تعهد، تمنعهم من إظهار أي بوادر فرح عند عودة أبنائهم إلى أحضانهم.
أما الدافع الآخر الذي حدا بحكومة نتنياهو إلى المغامرة في الضفة الغربية، فيتجلى في المستجدات السياسية داخل الأراضي المحتلة، فمع خمود أوار الحرب في غزة، انهالت الأحزاب المتطرفة بوابل من النقد اللاذع على نتنياهو، متهمةً إياه بالانحناء أمام حماس، وقد بلغ السيل الزبى باستقالة إيتمار بن غفير، وزير الأمن الداخلي في الكيان، احتجاجاً على هذا الاتفاق، في حين توعد سائر قادة التطرف بالانسحاب من الائتلاف الحاكم، ما لم يواصل نتنياهو حربه الضروس ضد الفلسطينيين.
وعليه، فقد تكون هذه العمليات محاولةً لتسكين ثائرة المعارضين في الداخل الإسرائيلي، إذ إن انفضاض الوزراء المتطرفين سيقوّض أركان حكومة نتنياهو، ليهوي من عرش رئاسة الوزراء إلى الأبد.
تهيئة الأجواء للانتخابات والقرارات السياسية المصيرية
في خضم ما يكابده نتنياهو منذ حولين كاملين من عظائم المصائب وجسام النوائب، وما يرزح تحت وطأته من أثقال الضغوط الاقتصادية، استعرت نار هجمات الأحزاب المناوئة التي تتربص به الدوائر، متحينةً الفرصة السانحة لتقويض حكومته وتهيئة المناخ لانتخابات مبكرة، تُنبئ استطلاعات الرأي برجحان كفة خصومه فيها للظفر بمقاعد البرلمان ومقاليد السلطة.
وفي مثل هذه المنعطفات العصيبة، دأبت حكومات الكيان الصهيوني على تأجيج نار العمليات العسكرية لتدعيم مواقعها السياسية في الداخل، ويبدو أن نتنياهو قد نهج هذا النهج، مؤجّجاً أوار المواجهات في الضفة الغربية للفكاك من مأزقه الراهن.
وفضلاً عن ذلك، تأتي عمليات جنين لجبر كسر إخفاق "إسرائيل" في بلوغ مآربها في غزة ولبنان، ومحاولةً لصرف الأنظار عن انكسارات جيشها، وبثّ روح معنوية جديدة في نفوس المستوطنين وجند الاحتلال، وفي هذا المضمار، يُرجح أن نتنياهو قد حظي بالضوء الأخضر من دونالد ترامب، رئيس الولايات المتحدة، إذ يشي رفع العقوبات عن المستوطنين المتطرفين من قبل البيت الأبيض، بإطلاق يد نتنياهو في إضرام نار الحرب بالضفة الغربية.
غير أن العمليات العسكرية للكيان الصهيوني في الضفة الغربية، يُتوقع أن تمتد لشهور طوال، وربما تتجاوز الحول الكامل، على غرار ما جرى في غزة، في مسعى لإكراه الفلسطينيين على الرحيل عن أرض الآباء والأجداد، وتوفير الأمن للمستوطنين، لکن التجارب أثبتت أن تصاعد وتيرة الجرائم، يقابلها عزم أشدّ وإصرار أقوى من الفصائل الفلسطينية على مجابهة المحتلين.
فكما كشفت نتائج الإبادة الجماعية في غزة، لم تنل الأحداث الجسام من عزيمة حماس فحسب، بل وفقاً لإقرار الأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية، انضوى تحت لوائها آلاف المقاتلين الجدد في الأشهر الأخيرة، والضفة الغربية تختزن في جنباتها المقومات كافةً لتغدو غزةً ثانيةً.