الوقت - يعيش المعارضون المسلحون في الوقت الراهن، مرحلةً من "شهر العسل" على الساحة السورية، فها هو أحمد الشرع (المعروف سابقاً بكُنية أبي محمد الجولاني)، بوصفه الحاكم الفعلي للمشهد السوري، يخوض غِمار أيامٍ حافلة، مُستقبِلاً - على نحوٍ شبه يومي - وفوداً دبلوماسيةً ومسؤولين سياسيين من شتى أنحاء العالم، وفي حين تبدو الأجواء السورية تنعم بهدوءٍ نسبي، يبرز السؤال الجوهري: أيُمثِّل هذا الهدوء استقراراً طويل الأمد، أم إنه مجرد هدوء يسبق العاصفة؟
يتمحور مستقبل سوريا برُمَّته حول الأداء المرتقب لهيئة تحرير الشام، التي باتت تبسط نفوذها على رُقعةٍ واسعة من الأراضي السورية عقب انهيار نظام بشار الأسد، بيد أن السؤال المصيري يظل قائماً: هل سيتمكن مقاتلو هيئة تحرير الشام من إحكام قبضتهم على مقاليد الأمور في عموم البلاد، وتأسيس حكومة جامعة تمثّل كل أطياف المجتمع السوري؟
تشرذم التحالفات في هيئة تحرير الشام
تتجلى إحدى المعضلات الرئيسية في البنية الهيكلية لهيئة تحرير الشام في طبيعتها التحالفية المركبة، إذ تُمثِّل نسيجاً متشابكاً من الفصائل المسلحة المتباينة، التي لا تجمعها بوصلة فكرية موحدة، فقد تشكّل هذا الكيان من تحالف جماعات ثورية مسلحة، تَوحَّدت خلف راية إسقاط نظام بشار الأسد، والسؤال المحوري الذي يفرض نفسه هو، أيمكن لهذا النسيج المتباين أيديولوجياً أن يحافظ على تماسكه بعد تحقيق غايته المشتركة؟
لقد شهد الثامن والعشرون من يناير 2017 ميلاد هذا الكيان، عبر انصهار عدة فصائل محورية: جيش الأحرار (المنشق عن حركة أحرار الشام)، وجبهة فتح الشام، وجبهة أنصار الدين، وجيش السنة، ولواء الحق، وحركة نور الدين زنكي، وتُشير المعطيات الراهنة إلى أن الهيئة باتت تضمّ في جنباتها ما يربو على أربعين فصيلاً مسلحاً متفاوت القوة والنفوذ.
تبرز في هذا الفسيفساء التنظيمي فصائل تتبنى أطروحة إقامة خلافة إسلامية على منوال تنظيم "داعش" في مرحلة ما بعد الأسد، وفي طليعتها حركة نور الدين زنكي التي لا تحيد عن هدف إقامة الخلافة، في المقابل، ينتهج القائد الحالي للهيئة، أحمد الشرع (المعروف سابقاً بأبي محمد الجولاني)، مساراً براغماتياً يبتعد عن أطروحات الخلافة، التي كانت تُشكّل محور رؤيته السابقة.
وقد أبدى الجولاني مرونةً لافتةً في مقاربة الملفات الداخلية السورية، وهو منحى أثار حفيظة العديد من الفصائل المنضوية تحت مظلة الهيئة، وعليه، تتعاظم احتمالية تصدع هذا التحالف في المستقبل المنظور، عبر انفصال بعض مكوناته المسلحة.
إشكالية توحيد المؤسسة العسكرية في سوريا
يجد صُنّاع القرار الجُدد في المشهد السوري، بقيادة أحمد الشرع (الجولاني)، أنفسهم أمام استحقاق مصيري يتمثل في ضرورة تأسيس منظومة عسكرية موحدة، وجيش نظامي متماسك لإدارة مقاليد الأمور، غير أن السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه بإلحاح هو، هل ستُبدي الفصائل المسلحة المنتشرة في الجغرافيا السورية، استعداداً حقيقياً للتخلي عن ترسانتها العسكرية؟
وتزداد تعقيدات المشهد مع المؤشرات القوية التي تُرجّح انفصال عدد من الفصائل المتحالفة راهناً مع هيئة تحرير الشام، وذلك على خلفية تباين رؤاها مع التوجهات البراغماتية التي يتبناها الجولاني، والأكثر إثارةً للقلق أن هذه الفصائل المنشقة يُتوقع أن تحتفظ بقدراتها العسكرية، ما يُشكّل التحدي الأبرز والأخطر الذي سيواجه المؤسسة العسكرية السورية المستقبلية.
في قراءة استشرافية للمشهد، ثمة احتمالية راجحة بأن تشهد سوريا الجديدة وضعاً استثنائياً غير مسبوق، حيث تتعدد مراكز القوة العسكرية، وتتواجد إلى جانب الجيش النظامي عدة تشكيلات مسلحة، تدّعي كل منها أحقيتها في حفظ الأمن وإرساء النظام، وهذا السيناريو، إن تحقق، سيقوّض بشكل جذري هيبة المؤسسة العسكرية السورية المستقبلية وسلطتها، ويطرح تساؤلات مصيرية حول قدرتها على بسط سيادتها الفعلية على كامل التراب السوري.
تجربة قمع المغايرين فكرياً
لا يُعدّ المشهد الحالي جديداً في تجارب هيئة تحرير الشام الحُكمية، إذ سبق لهذا التحالف المسلح أن خاض غمار التجربة السياسية في محافظة إدلب منذ عام 2017، حيث أسّس كياناً سياسياً مستقلاً عن سلطة دمشق المركزية، متخذاً من "حكومة الإنقاذ السورية" مظلةً لممارساته السياسية والإدارية.
وتُماط اللثام عن حقيقة الحياة تحت ظل حكم الهيئة، من خلال تقارير موثقة نشرتها صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، تغطي الفترة الممتدة من 2018 إلى 2020، مُسلِّطةً الضوء على منظومة القيود الصارمة التي فُرضت على المواطنين، وتتجلى مظاهر هذا التشدد في سلسلة من الإجراءات التقييدية: من فرض الفصل القسري بين الجنسين في المقاهي، إلى حظر شامل للموسيقا في المراكز التجارية والفضاءات العامة، مروراً بملاحقة حاملي الوشوم من الرجال، وصولاً إلى فرض النقاب على النساء.
ولقد شهدت إدلب خلال الفترة 2018-2023 موجات متتالية من الاحتجاجات الشعبية المناهضة لسياسات الهيئة، قوبلت جميعها بقمع منهجي وحملات اعتقال واسعة النطاق، إن استنساخ هذا النهج القمعي في دمشق، قد يؤجّج جذوة السخط الاجتماعي في أوساط المجتمع السوري العلماني، ما قد يفضي إلى حالة من العصيان المدني الشامل ضد سلطة الهيئة.
معضلة الأكراد
كشفت هيئة تحرير الشام مؤخراً عن مبادرة لعقد مؤتمر محوري، يستهدف نزع السلاح من كل التشكيلات المسلحة في الساحة السورية، بيد أن الغياب اللافت لقوات سوريا الديمقراطية (SDF) الكردية، شكّل ثغرةً استراتيجيةً في هذا المسعى، فالقوات الكردية، تحت قيادة مظلوم عبدي، تُحكم سيطرتها على المثلث الاستراتيجي في الشمال الشرقي السوري والمناطق المتاخمة لأعالي نهر الفرات.
وعلى الرغم من التصريحات البراغماتية للجولاني بشأن الاعتراف بالمكون الكردي كجزء أصيل من النسيج السوري، إلا أن غيابهم الملحوظ عن مؤتمر نزع السلاح، يعكس موقفاً استراتيجياً واضحاً: تمسكهم بضمانات ملموسة لدورهم في المشهد السياسي السوري المستقبلي، ورفضهم القاطع للتخلي عن قدراتهم العسكرية دون مكتسبات سياسية واضحة المعالم.
ويبرز هنا السؤال الجوهري: هل تمتلك هيئة تحرير الشام الإرادة السياسية والمرونة الكافية، للانخراط في شراكة سياسية حقيقية مع المكون الكردي؟ تُلقي التجربة التاريخية للهيئة وممارساتها الاستئثارية، بظلال من الشك على إمكانية تبنيها لنهج تشاركي في السلطة مع المكونات العرقية الأخرى، وعلى رأسها المكون الكردي.
وعليه، تبرز المعضلة الكردية كأحد التحديات الاستراتيجية الملحة التي سيواجها حكم هيئة تحرير الشام في سوريا الجديدة، وهذا الواقع يطرح إشكاليات عميقة حول قدرة الهيئة على إدارة التعددية العرقية والسياسية في البلاد، وإمكانية صياغة عقد اجتماعي جديد يضمن الاستقرار في المشهد السوري المعقد.