الوقت - يتصدر السؤال المحوري "ما مصير سوريا؟" المشهد الراهن، مستحوذاً على اهتمام المراقبين والمحللين على حدٍ سواء.
فمن منظورٍ أول، شكَّل الانهيار المتسارع لنظام بشار الأسد خلال أيام معدودة منعطفاً دراماتيكياً غير متوقع، أذهل حتى أكثر المراقبين والمحللين خبرةً بتطورات المشهد السوري - وهو تحوّل جذري لم يكن في حسبان حتى أشدّ المتفائلين في صفوف المعارضة السورية.
وفي المقابل، يُشكّل تعقيد المشهد الحالي - بما يتضمنه من تنوع وتباين في تركيبة القوى الفاعلة، وتشتت المعارضة السياسية في المنفى، والتركيبة المجتمعية العشائرية-القبلية المتجذرة، والمسألة الكردية المعقدة، وتدخلات القوى الإقليمية والدولية، وتنامي التهديدات الإرهابية - عوامل متشابكة تُلقي بظلالها على المرحلة الانتقالية، ما يجعلها محفوفةً بسيناريوهات متعددة، يبرز من بينها سيناريو الفوضى الشاملة كأكثرها ترجيحاً في المرحلة الراهنة.
تقف سوريا في مفترق طرق تاريخي حرج، حيث تواجه تحولاً سياسياً جذرياً محفوفاً بمنظومة معقدة من التحديات والإشكاليات غير المحسومة، ويتجلى هذا المشهد المعقد قبل الشروع حتى في النقاشات المرتقبة حول هوية وطبيعة النظام السياسي المستقبلي، ولا سيما في ظل التنافس المحموم بين مختلف القوى والتيارات على مقاليد السلطة وتوزيع النفوذ.
وفي خضم هذا المشهد المتشابك، يتصدر هاجسٌ محوري المخاوف الراهنة، مستحوذاً على اهتمام السوريين والدول المجاورة والمجتمع الدولي على حدٍ سواء، وهو مدى مصداقية التعهدات البراقة التي أطلقتها الجماعات المسلحة بشأن احترام حقوق الإنسان، وصون أمن كل المكونات العرقية والطائفية والتوجهات السياسية خلال المرحلة الانتقالية، والأهم من ذلك، مدى التزامها بمبدأ مؤقتية سيطرتها على مفاصل الدولة - وهو أمر تشير المؤشرات والدلائل المتعددة إلى صعوبة التفاؤل بشأنه.
في الواقع، تتزايد المؤشرات التي تنبئ باحتمالية دخول البلاد في مرحلة انتقالية طويلة الأمد ومضطربة، ما قد يحوّل تطلعات السوريين نحو إقامة حكومة مستقرة وجامعة، إلى سراب بعيد المنال.
وفي هذا السياق، يقدّم عبد العزيز الساقر، مدير مركز دراسات الخليج الفارسي، تحليلاً للمشهد قائلاً: "تتنافس كل جماعة من هذه الجماعات المتمردة للهيمنة والاستئثار بالسلطة… ويرتبط كل منها بمحاور خارجية وجهات تمويل متباينة، ما سيفضي حتماً إلى نشوب صراعات بينها، ما لم تتدخل الأمم المتحدة والقوى الإقليمية المؤثرة لرأب الصدع وتوحيد الصفوف".
ويعزز هذا التحليل ما كشف عنه دبلوماسي غربي رفيع المستوى في المنطقة - فضّل عدم الكشف عن هويته - في تصريحات لوكالة رويترز، حيث أكد أنه "في ظل التشرذم الحاد لقوى المعارضة، تفتقر الساحة السورية إلى رؤية واضحة المعالم لإدارة دفة الحكم؛ وهو ما يشكّل معضلةً جوهريةً نظراً للتركيبة المجتمعية المعقدة في سوريا، وتعدد مكوناتها الطائفية والعرقية، حيث تتمتع كل منها بنفوذها المحلي وثقلها السياسي.
تكتيك التحول الأيديولوجي: الفجوة بين القول والفعل
تُشكِّل المنطلقات الفكرية التكفيرية-السلفية، التي تتبناها الغالبية العظمى من الفصائل المسلحة المنضوية تحت لواء المعارضة السورية، محوراً جوهرياً في تصاعد المخاوف من تجذُّر النزعات المتطرفة وهيمنتها على مسار المرحلة الانتقالية، ما يُنذر بتفاقم دوامة العنف وتقويض المنظومة الأمنية المجتمعية.
لقد شهد مطلع عام 2017 منعطفاً استراتيجياً في مسار هيئة تحرير الشام، حيث أعلنت انفصالها التنظيمي عن القاعدة وتخليها عن الأيديولوجية الجهادية-السلفية، ومنذ ذلك الحين، انتهجت الهيئة سياسةً ممنهجةً للهيمنة على المشهد الديني في إدلب، وإعادة صياغة توجهاتها الأيديولوجية.
وفي مارس 2019، توَّجت هذا المسار بتأسيس "المجلس الأعلى للإفتاء" تحت إشراف مباشر من مستشاري الجولاني، في محاولة لاحتكار المرجعية الدينية والحدّ من نفوذ العلماء السلفيين، سعياً لضبط المنظومة الفتوائية ومنع التفسيرات غير الرسمية والمتطرفة للأحكام الشرعية.
وتكشف التقارير الموثقة عن حملة ممنهجة شنتها هيئة تحرير الشام لاجتثاث العناصر المرتبطة بتنظيم "داعش" والموالين للقاعدة، وفي مقدمتهم سامي العريدي وأبو فاروق الشامي وأبو جليبيب العردوني، إلى جانب عناصر تنظيم "حراس الدين".
وبالتوازي مع هذا المسار الإقصائي، برز صعود لافت لما يُعرف بـ"التيار المصري" الأقل تشدداً نسبياً، متمثلاً في شخصيات محورية كأبي شعيب المصري وأبي اليقظان المصري وأبي الفتح الفرغلي وأبي الحارث المصري، الذين تبوؤوا مناصب دينية مؤثرة، وخاصةً في مجال الإفتاء.
شكَّل سبتمبر 2020 منعطفاً دبلوماسياً لافتاً في مسار هيئة تحرير الشام، حيث أدلى مرجعها الديني البارز عبد الرحيم عطون (أبو عبد الله الشامي) بتصريحات لافتة لصحيفة "LETEMPS" الفرنسية، مطالباً بتطبيع العلاقات مع المنظومة الغربية، وأكد في حواره قائلاً: "نخوض حالياً مساراً لإعادة تشكيل صورتنا، ليس بهدف تجميل الواقع، وإنما لعرضه بشفافية كما هو".
واستطرد عطون في تصريحاته، مؤكداً التباين الجوهري بين واقع سكان إدلب والظروف القاسية التي عاشها سكان الرقة تحت سيطرة "داعش"، مشدداً على تطلع جماعته للخروج من "القائمة السوداء"، باعتباره المدخل الوحيد لتحقيق النهضة المنشودة في المنطقة.
بيد أن هذه المساعي الحثيثة لتقديم صورة مغايرة للجماعات السلفية-الجهادية السابقة - بما في ذلك التعاون مع الفصائل الأخرى في تشكيل حكومة الإنقاذ بإدلب عام 2017 - لم تُفضِ إلى تحول جذري في المنظومة الفكرية والسلوكية للتنظيم، وفي الواقع، تظل هذه التصريحات والخطابات السياسية مجرد حبر على ورق، ما لم تتجسد في إجراءات ملموسة على أرض الواقع.
ولعل أبرز المؤشرات الكاشفة عن هذه الازدواجية، موقف عبد الرحيم عطون من مصرع أيمن الظواهري، الزعيم السابق لتنظيم القاعدة، في الغارة الأمريكية بطائرة مسيّرة في أفغانستان عام 2022، حيث بادر إلى نعيه ووصفه بالشهيد، ما يكشف عن استمرار تبنيه للمنظومة الفكرية القاعدية دون تحول جوهري.
كما يُشكّل نهج هيئة تحرير الشام في تحديد طبيعة علاقتها وآليات تعاملها مع حكومة الإنقاذ "التكنوقراطية" المزعومة في إدلب، شاهداً إضافياً على الفجوة العميقة بين الخطاب التجديدي المُعلن، والممارسات الفعلية في مسار التحول المزعوم لهذه الجماعات.
شكَّل سبتمبر 2017 منعطفاً محورياً في المشهد السوري، حيث انعقد "المؤتمر العام السوري لإدارة المناطق المحررة" بمشاركة عدد من الشخصيات المؤثرة في إدلب، متضمناً أكاديميين وممثلين عن السلطات المحلية والمجالس، بهدف رسم ملامح المنظومة الحاكمة في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة.
وأفضى المؤتمر إلى صياغة بيان رباعي النقاط، تصدرته ركيزة جوهرية: "الشريعة الإسلامية هي المصدر الوحيد للتشريع، مع ضرورة صون الهوية الإسلامية للشعب السوري" - وهو مبدأ يُرجَّح أنه صيغ بعناية لترسيخ الموقع القيادي لهيئة تحرير الشام في المشهد السياسي.
ولقد تجلت الهيمنة العسكرية على مفاصل حكومة الإنقاذ منذ لحظات تأسيسها الأولى، حيث تغلغل عناصر هيئة تحرير الشام في أروقة المؤسسات الحكومية وجلسات مجلس الشورى، مع إحكام قبضتهم عبر تأسيس مكاتب متابعة في كل وزارة.
وامتدّ نطاق هذه الهيمنة ليشمل المؤسسة الأمنية، حيث لم تتمكن وزارة الداخلية في حكومة الإنقاذ من بسط سيطرتها الكاملة على الجهاز الشرطي، في حين ظلت مؤسسة "مركز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" تحت السيطرة المباشرة للهيئة - ما يعكس إحكام قبضتها على مفاصل السلطة في إدلب، حيث كانت تواجه أي نشاط مستقل يتعارض مع منظومتها الفكرية أو توجهاتها السياسية، بإجراءات قمعية وعقوبات سالبة للحرية.
أفضت هذه الممارسات في مايو 2024 إلى اندلاع موجة احتجاجات شعبية غير مسبوقة ضد هيئة تحرير الشام، حيث عبَّر المحتجون عن رفضهم القاطع لسياسات الجماعة، مطالبين بتنحية أبي محمد الجولاني، وإطلاق سراح المعتقلين وتحسين الأوضاع المعيشية المتردية.
ويذهب العديد من المحللين والخبراء إلى أن عمليات إقصاء العناصر المتشددة، عكست في جوهرها تصفية حسابات داخلية وصراعات نفوذ على قيادة التنظيم، أكثر من كونها تحولاً أيديولوجياً حقيقياً.
شهد الخامس من أبريل 2024 منعطفاً دراماتيكياً في مسار هيئة تحرير الشام، تمثّل في اغتيال أحد أبرز قياداتها "أبو مارية القحطاني"، عقب ستة أشهر من اعتقاله بتهمة التواصل مع أطراف خارجية، وكان قد سبق هذا الحدث المفصلي في ديسمبر 2023 انشقاق شخصية قيادية بارزة أخرى، أبو أحمد زكور، الذي شغل سابقاً منصبي قيادة جبهة النصرة في حلب ومسؤول العلاقات العامة للتنظيم، حيث لاذ بالفرار إلى المناطق الخاضعة للنفوذ التركي.
عقب انشقاقه، وجّه زكور سلسلةً من الاتهامات الخطيرة للجولاني، أبرزها مزاعم تورطه في التفجير الذي وقع في أغسطس 2016 في "أطمة" على الحدود التركية-السورية، والذي أودى بحياة العشرات من عناصر الجيش السوري الحر، وحصد أرواح عدد من المدنيين.
وما لا ريب فيه أن إعلان الجولاني التخلي عن الركائز الأيديولوجية، سيفضي حتماً إلى تعميق الشروخ داخل الهيئة، ما قد يؤدي إلى موجة من الإحباط والانشقاقات، بل ربما التمرد في صفوف المقاتلين السلفيين-الجهاديين - وهو خيار محفوف بالمخاطر على كل المستويات.
وفي خضم هذه التطورات المتسارعة، بدأت تتجلى تدريجياً مؤشرات النزعة الخلافية لدى هيئة تحرير الشام، فقد دخل الجولاني العاصمة دمشق متقمصاً دور الفاتح بعد إحكام قواته السيطرة عليها، واختار المسجد الأموي منصةً لإلقاء خطابه وسط هتافات المبايعة من أنصاره، في مشهدٍ يستحضر بقوة أسلوب أبي بكر البغدادي زعيم تنظيم "داعش".
ومن اللافت للنظر أن كلا القائدين اختار منابر المساجد كمنصة رمزية لإلقاء خطاب النصر الأول وتلقي البيعة، وفي حين صاغ الجولاني خطابه بلغة جهادية تقليدية، معلناً أن ما تحقق يمثّل نصراً للأمة الإسلامية جمعاء وليس لسوريا وحدها، ارتفعت في الأيام الأخيرة أصوات بعض العناصر المسلحة في الشوارع، مطالبةً بإقامة الخلافة.