الوقت - في تسلسل متسارع للأحداث، نجحت فصائل المعارضة المسلحة، التي استهلت هجومها المباغت على حلب في الثامن والعشرين من نوفمبر، في إحكام سيطرتها على المدن السورية تباعاً، لتُتوّج عملياتها فجر الأحد باقتحام العاصمة دمشق، والاستيلاء على المفاصل العسكرية والأمنية الحيوية في البلاد.
ووفقاً لمراسلي شبكة CNN، فإن قوات المعارضة اخترقت العاصمة في ظل غياب شبه تام لأي مقاومة من القوات النظامية، وفي تطور لافت، أصدرت القيادة العسكرية السورية بياناً رسمياً إلى كوادرها يُقرّ بسقوط نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد، وتكشف التقارير الميدانية عن انهيار شبه كامل للمنظومة العسكرية، حيث غادر الجنود مواقعهم الإستراتيجية، بما فيها المقرات الحساسة كمديرية الاستخبارات العسكرية، ومجمع القيادة العامة في ساحة الأمويين.
وتوثق المشاهد المتداولة على منصات التواصل الاجتماعي، مشهداً دراماتيكياً لعناصر الجيش السوري وهم يتخلون عن زيهم العسكري ويرتدون الملابس المدنية مع تقدم قوات المعارضة نحو قلب العاصمة.
وفي خطوة تعكس الواقع الجديد، أعلن رئيس الوزراء السوري محمد الجلالي عن اجتماع استثنائي لمجلس الوزراء يوم الأحد لترتيب إجراءات نقل السلطة، مؤكداً استعداده للتعاون مع أي قيادة تحظى بتفويض الشعب السوري.
بيان المعارضة المسلحة
في لحظة فارقة تُعيد رسم خارطة المشهد السياسي السوري، أصدرت القيادة السياسية للمعارضة المسلحة بياناً رسمياً يؤكد إحكام سيطرتها على العاصمة دمشق، وجاء في البيان: إن سوريا المتحررة تتطلع بعزم وثقة إلى تعزيز نسيج علاقاتها مع الدول الشقيقة والصديقة، مستندةً إلى ركائز الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، وستضطلع بدورٍ محوري وبنّاء في المنطقة والساحة الدولية لترسيخ دعائم الأمن والاستقرار".
وأضاف البيان: "إن فجر الحرية يُدشن عهداً جديداً من الإصلاح الاقتصادي الشامل والعميق، سنضع خارطة طريق استراتيجية لتطوير القطاعات الحيوية، وخلق منظومة متكاملة من فرص العمل، وتهيئة مناخ استثماري جاذب للرساميل المحلية والدولية"، وفي رسالة موجهة إلى السوريين في المهجر، أكد البيان: وطنكم يفتح ذراعيه لاستقبالكم، ليشارك الجميع في بناء سوريا الجديدة، وطن العدالة والسلام والتعايش المشترك.
وفي تطور لافت، وعقب السيطرة على مبنى التلفزيون الرسمي، بثت المعارضة بياناً موجزاً يؤكد سيطرتها الكاملة على العاصمة، مع توجيه نداء عاجل للقوات المسلحة والمواطنين لحماية المنشآت والممتلكات العامة، كما أعلنت عن إطلاق سراح كل المعتقلين من السجون.
ونقلت قناة الجزيرة مشاهد حية لدخول قوات الشرطة التابعة للمعارضة إلى دمشق لفرض الأمن، في وقتٍ تواترت فيه تقارير عن حالات فوضى متفرقة، شملت اقتحام القصر الرئاسي.
وفي إطار الحرص على السلامة العامة، أطلقت المعارضة نداءات عبر مآذن المساجد تحثّ المواطنين على التزام منازلهم، غير أن الآلاف تدفقوا، مشياً وركوباً، نحو ساحة الأمويين التاريخية، مرددين هتافات الحرية.
وشهدت العاصمة إسقاط رموز النظام السابق، حيث تمت إزالة تماثيل حافظ الأسد وإزالة صور العائلة الحاكمة من كل الميادين والمؤسسات، وفي أزقة دمشق القديمة، تعالت أصوات الشباب بهتاف موحد: "الشعب السوري واحد".
هروب الأسد إلى روسيا
في أعقاب السقوط المدوي للعاصمة دمشق، تباينت التقارير الإعلامية وتضاربت المصادر الاستخباراتية حول المصير الغامض للرئيس بشار الأسد، وحتى هذه اللحظة، يكتنف الغموض مكان تواري الرئيس السوري، في حين تؤكد المعلومات المتداولة مغادرته دمشق إلى وجهة لم يُكشف النقاب عنها بعد، مع ترجيحات قوية من مصادر موثوقة تشير إلى احتمال لجوئه إلى الأراضي الروسية.
وفي تطور لافت، وعقب الانسحاب الاستراتيجي للقوات السورية من مدينة حمص، كشفت المعارضة السورية عن رصد طائرة روسية من طراز إيليوشين أقلعت في الساعات الأولى من فجر يوم الأحد من مطار دمشق الدولي، متخذةً مسارها نحو قاعدة حميميم العسكرية الروسية على الساحل السوري.
وتجري حالياً الفصائل المسلحة تحقيقات مكثفة واستجوابات موسعة مع ضباط رفيعي المستوى وعناصر من الأجهزة الاستخباراتية، في محاولة لتحديد الموقع الدقيق للرئيس الأسد، غير أن المؤشرات الأولية تُرجح مغادرته البلاد دون إحاطة كبار المسؤولين الحكوميين علماً بتحركاته.
وفي تصريحات لقناة العربية، أدلى رئيس الوزراء السوري، الذي يتولى حالياً مقاليد إدارة شؤون الدولة، بقوله: "لا تتوافر لدينا معلومات دقيقة عن مكان وجود الرئيس الأسد أو توقيت مغادرته الأراضي السورية، وكان آخر اتصال مباشر معه في ساعات مساء يوم السبت"، وتجدر الإشارة إلى أن وزير الدفاع السوري قد غادر البلاد أيضاً برفقة الرئيس الأسد، فيما يُعتقد أنه تحرك احترازي لتفادي أي إجراءات عقابية محتملة من قبل قوى المعارضة.
الخطاب الأول للجولاني
ألقى أبو محمد الجولاني، رئيس هيئة تحرير الشام، والذي أصبح الشخصية الأبرز في المشهد السوري الراهن، كلمةً مقتضبةً استعرض خلالها رؤيته للوضع الأمني والسياسي في سوريا.
وقد أصدر الجولاني، المعروف باسمه الحقيقي "أحمد الشرع"، توجيهات صارمة لكل القوات العسكرية المنتشرة في العاصمة دمشق، محذراً إياهم من الاقتراب من المؤسسات العامة، مؤكداً أنها ملك للشعب السوري العظيم.
وشدد الجولاني في خطابه قائلاً: "ستظل هذه المؤسسات تحت إشراف رئيس الوزراء السابق حتى يتم تسليمها رسمياً، لا يوجد خلاف بيننا وبين الحكومة السابقة، وستواصل هذه الحكومة أداء مهامها ومسؤولياتها".
وأضاف رئيس هيئة تحرير الشام: "نبدأ اليوم مرحلةً جديدةً في سوريا، قائمةً على التعايش السلمي وسيادة القانون، سنكتب معاً صفحة النصر لأعظم ثورة في التاريخ الحديث"، وحرصاً منه على استتباب الأمن وتهدئة مخاوف المواطنين، أصدر الجولاني قراراً يحظر إطلاق النار في الهواء من قبل المعارضين المسلحين.
وفي سياق متصل، صرّح هادي البحرة، رئيس ائتلاف المعارضة السورية، في حديث خاص لقناة الجزيرة قائلاً: "ستعقد المعارضة اجتماعات مكثفة مع الدول العربية والأوروبية والأمم المتحدة، للتوافق على ملامح المرحلة المقبلة".
كانت سوريا حصناً منيعاً في وجه الصهاينة
في أعقاب سقوط العاصمة دمشق في قبضة المعارضة، تباينت رؤى المحللين الاستراتيجيين حول مستقبل المشهد السياسي في هذا البلد المحوري.
وحسب تقرير "الوقت"، أشار السيد هادي سيد أفقهي، الخبير في شؤون غرب آسيا، في حديثه مع “وكالة الإذاعة والتلفزيون للأنباء"، إلى الدور المحوري الذي لعبته سوريا في محور المقاومة خلال العقود الماضية، حيث صرّح قائلاً: "شكّلت سوريا على مدى عقود متتالية ركيزةً أساسيةً للقضية الفلسطينية، وملاذاً آمناً للفصائل المقاومة الفلسطينية، وقد تميّز موقفها بالثبات والصمود في وجه الضغوط الأمريكية-الصهيونية الرامية إلى جرّها نحو مسار التطبيع على غرار اتفاقيتي كامب ديفيد ووادي عربة، كما مثّلت دمشق عمقاً استراتيجياً لمحور المقاومة، ولا سيما في دعم حزب الله اللبناني في مواجهته للكيان الصهيوني".
وفي تحليله لمسار التطورات الجيوسياسية والأمنية في سوريا منذ اندلاع الأزمة وحتى سقوط دمشق، أوضح أفقهي: "عقب النجاحات الميدانية التي حققتها سوريا بدعم حلفائها الاستراتيجيين - إيران وحزب الله وروسيا - تبلور المسار السياسي ضمن محورين رئيسيين: مباحثات أستانة ومؤتمر سوتشي، حيث توصل ممثلو القوى الضامنة الثلاث - روسيا وإيران وتركيا - إلى توافقات جوهرية، والتزمت القيادة السورية بإجراء إصلاحات دستورية وتوسيع نطاق المشاركة السياسية لتيارات المعارضة المعتدلة".
وفي تحليله للمشهد الراهن، سلّط الخبير الاستراتيجي الضوء على الإخلال التركي بالتزاماتها قائلاً: "تعهدت أنقرة، عقب توقيع اتفاقيات أستانة وسوتشي، بالعمل على نزع سلاح المجموعات المسلحة وإدماجها في المنطقة الآمنة، وتهيئة الأجواء لمشاركة المعارضة في المشهد السياسي السوري، غير أن الأطماع الإقليمية التركية، مقرونةً بثغرات في الأداء الحكومي السوري، أفسحت المجال لتدخلات خارجية من قبل الكيان الصهيوني والولايات المتحدة وبعض الدول الخليجية، ما أفضى إلى تأزم الوضع في حلب".
لم تكن هناك ضرورة للوجود الإيراني المكثّف في سوريا
في تحليلٍ لتراجع الدور الإيراني في المشهد السوري الراهن مقارنةً بمرحلة نشوء الأزمة، أفاد أفقهي قائلاً: "في ضوء المعطيات الإقليمية المستجدة والمواقف المتبلورة لتركيا والقوى الفاعلة الأخرى إزاء الأزمة في سوريا، لم تعد هناك ضرورة ملحّة لانخراط إيراني مكثّف في مساعي تحقيق الاستقرار والمصالحة الوطنية على الأراضي السورية، وعليه، اقتصر الدور الإيراني على تقديم الاستشارات العسكرية والمساعي الدبلوماسية، وقد تجسّدت المساعي الإيرانية الأخيرة في الزيارات رفيعة المستوى التي قام بها كل من عراقجي ولاريجاني إلى دمشق، فضلاً عن الرسائل التي وجّهها سماحة القائد إلى الرئيس بشار الأسد في هذا السياق".
سوريا دخلت نفقاً مظلماً
وفي معرض تحليله لمستقبل المشهد السياسي السوري في أعقاب سقوط حكومة الأسد، أوضح السيد أفقهي: "نحن إزاء معضلتين رئيسيتين؛ تتمحور الأولى حول مستقبل سوريا التي دخلت فعلياً نفقاً مظلماً، فمع تشظي المشهد الميداني بين سبعة وثلاثين فصيلاً متصارعاً، لكلٍ منها أجندته ومصالحه الخاصة - علماً أن غالبية هذه الفصائل المسلحة ليست سورية المنشأ - يُطرح السؤال الجوهري حول مآلات هذا التنازع على النفوذ والمصالح، فثمة تيارات مناهضة للكيان الصهيوني وأخرى مؤيدة له، وفصائل تسعى نحو الاستقلال الذاتي، وأخرى تسعى إلى تفتيت الوحدة السورية، وثالثة تنادي بنظام كونفدرالي.
هذه هي معالم المشهد السوري الراهن، ويتعين علينا الترقب والانتظار لاستجلاء المآلات النهائية، وفي هذا السياق، أعلن قائد هيئة تحرير الشام مؤخراً عن موافقة مبدئية على إقامة حكومة انتقالية، موكلاً مهمة تنفيذ هذا المسعى إلى رئيس الوزراء السوري الحالي".
مهمة المقاومة مستمرة في غياب الضلع السوري
في تحليله لمستقبل المشهد الإقليمي، تناول أفقهي مصير محور المقاومة في ظل غياب الركيزة السورية، حيث أفاد:
"لا يمكن تجاهل الفراغ الاستراتيجي الذي أحدثه تراجع الدور السوري في منظومة المقاومة، غير أن النسيج المتين لهذا المحور لا يزال محتفظاً بحيويته وفاعليته، إذ تؤكد الجمهورية الإسلامية التزامها الثابت والراسخ بدعم مسيرة المقاومة وتعزيز أركانها.
وتجدر الإشارة إلى أن الرسالة الجوهرية للمقاومة وإيران، لم تكن يوماً مرتهنةً بدولة بعينها أو محصورةً في نطاق جغرافي محدد، بل تتمحور حول هدفين استراتيجيين ساميين: أولاً: التصدي للمشروع الصهيوني وتداعياته على المنطقة، وثانياً: العمل على إنهاء الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة، وذلك باعتبار هذين العاملين المحرك الرئيسي لحالة عدم الاستقرار والاضطراب الأمني التي تشهدها المنطقة بأسرها".