الوقت- إن فوز “دونالد ترامب” في الانتخابات الرئاسية الأمريكية له تداعيات تتجاوز حدود هذا البلد، وكان العديد من الدول يتابع انتخابات هذا البلد بسبب الصلاحيات التي يتمتع بها الرئيس في مجال السياسة الخارجية، ولكن في إيران، كانت الانتخابات الأمريكية، وخاصة في هذه الجولة، تفتقر إلى الأهمية الشاملة بغض النظر عن النتيجة، وأحد أسباب ذلك هو أن عدم وجود اختلاف استراتيجي في سياسات المرشحين الرئاسيين الأمريكيين تجاه إيران، وهذا الأمر لم يكن مجرد تكهنات نظرية، بل تجربة موضوعية مبنية على السجلات العملية للرؤساء الأمريكيين.
وعلى عكس عام 2016، عندما أُعلن فوزه لأول مرة في البيت الأبيض، لم يكن دونالد ترامب وجهاً غير مألوف هذه المرة، وكان هناك فهم عام لسياساته تجاه إيران، وخلال إقامته التي استمرت أربع سنوات في البيت الأبيض بين عامي 2017 و2021، تبنى سياسة "الضغط الأقصى" ضد إيران، والتي فشلت في هدفها النهائي المتمثل في إطلاق مظاهرات في الشوارع والإطاحة بالحكومة الإيرانية في نهاية المطاف وإلحاق صدمات اقتصادية بإيران.
في المقابل، كان من المتوقع أن تنتهج "كامالا هاريس" مرشحة الديمقراطيين، في حال فوزها بالانتخابات، نفس سياسة 4 سنوات التي انتهجتها رئاسة جو بايدن، والمعروفة باسم "الضغط الذكي" ضد إيران، والتي في الممارسة، لا فرق استراتيجي بينها وبين سياسة دونالد ترامب ضد إيران، ويمكن رؤية انعكاس هذه القضية في لامبالاة الشعب الإيراني بنتائج الانتخابات مقارنة بالسنوات الأربع الماضية، وكانت بعض الأبحاث قد أفادت خلال 24 ساعة من الانتخابات بأن اهتمام المستخدمين بانتخابات هذا العام انخفض إلى الخمس مقارنة بما كان عليه قبل 4 سنوات.
ترامب في زمن مختلف.. من أوكرانيا إلى إيران
لكن هذا الاتجاه لا يمكن أن يفهم على أنه يعني أن دونالد ترامب، الآن بعد انتخابه رئيسا للولايات المتحدة، يمكن أن يجعل سياسته تجاه إيران في السنوات الأربع المقبلة تكرارا للولاية الأولى من رئاسته، في الواقع، تغير "روح العصر" كثيرا منذ غادر ترامب البيت الأبيض، حتى أنه لا يستطيع تجاهلها، ما لم يكن لديه هوس قهري لتكرار استراتيجية فاشلة سابقة.
ومن بين الأحداث المهمة منذ رحيل ترامب عن السلطة، أحدثت الحرب في أوكرانيا والعقوبات الغربية التي تقودها الولايات المتحدة والدعم العسكري المكثف الذي تقدمه هذه الدولة لأوكرانيا، العديد من التغييرات في العالم، ويعتقد العديد من المحللين أن نجاح ترامب في تطبيق العقوبات على إيران سيتطلب قطع العلاقات بين إيران وروسيا والصين، والتي أصبحت أقوى مما كانت عليه في السنوات الأربع الماضية.
إن خلق مثل هذا الانفصال سوف يتطلب إنهاء الحرب في أوكرانيا في المقام الأول، ومن ناحية أخرى، فإن قدرة ترامب على حل هذه الأزمة المعقدة ستتطلب منه عدم تنفيذ جزء كبير من العقوبات التي فرضتها واشنطن على روسيا، وهو الأمر الذي يبدو مستبعدا للغاية، بالإضافة إلى ذلك، اتخذت الحكومة الثالثة عشرة للجمهورية الإسلامية خطوات في السنوات الثلاث الماضية لتحييد ضغوط العقوبات وشكلت شبكة فعالة للتحايل على العقوبات، ولهذا السبب فإن نجاح الضغط الأقصى سيواجه الكثير العقبات مما كانت عليه في الجولة الأولى.
إن زيادة مبيعات النفط وزيادة التجارة الخارجية وزيادة مستوى التجارة مع دول الجوار والعضوية في اتفاقيات مثل مجموعة البريكس ومنظمة شنغهاي هي من بين الخطوات التي اتخذتها إيران من أجل تقليل وتحييد تأثير العقوبات، وسينخفض حجم العقوبات المفروضة على الاقتصاد الإيراني على وجه الخصوص مع مرور الوقت، إضافة إلى حدث مهم آخر هو اندلاع حرب غزة، التي واجهت حكومة بايدن بضغوط كبيرة من الرأي العام، ومن الطبيعي أن تعرض ترامب لتحديات في هذا المجال، وسيتم تخصيص جزء من طاقة حكومته لمحاولة إنهاء الحرب.
وقبل الانتخابات الأمريكية، ذكر موقع "أكسيوس" أن ترامب طلب من نتنياهو إنهاء الحرب بحلول الوقت الذي تتولى فيه حكومته السلطة إذا فاز في الانتخابات، وهذا يدل على أن ترامب يشعر بالقلق أيضًا بشأن انتشار الصراعات في منطقة غرب آسيا، ولا يمكنه تصعيد الضغط على إيران بشكل لا يمكن السيطرة عليه، من ناحية أخرى، لا يمكن لدونالد ترامب أن يتجاهل حقيقة أن الهدف النهائي لسياسة الضغط الأقصى التي ينتهجها، هو بدء أعمال شغب في الشوارع الإيرانية، وهو ما سعى إليه جو بايدن بجد، ولكن لم يصل أبدًا إلى النتائج التي يحبها مستشاروه المقربون.
ورغم أن مسؤولي الجولة الأولى من رئاسة ترامب زعموا أنهم لا يسعون إلى الإطاحة بإيران، إلا أن هناك مؤشرات قوية للغاية تدل على أن الهدف الرئيسي للضغط الأقصى هو في الواقع فرض ضغط معيشي على الشعب الإيراني للإطاحة بالحكومة، والعديد من المستشارين الذين اجتمعوا حول ترامب وشكلوا سياسته تجاه إيران، ومن بينهم "رودي جولياني" و"مايك بومبيو" و"جون بولتون"، كانوا وما زالوا متحدثين وأعضاء في طائفة المنافقين، وقام هؤلاء المستشارون ومعهم مارك دابويتز مدير اللوبي الصهيوني "مؤسسة الدفاع عن الديمقراطية" بتحليل الوضع بحيث إن الضغط الأقصى يمكن أن يؤدي في النهاية إلى إطلاق احتجاجات معيشية ومن ثم هناك احتمال لإسقاط الحكومة.
وعلى سبيل المثال، وعد "جون بولتون" الذي أصبح مستشار الأمن القومي في إدارة ترامب، في خطاب ألقته طائفة المنافقين عام 2016، بأن الحكومة الإيرانية لن تحتفل بعيد ميلادها الأربعين، وفي ذلك الخطاب أمام أعضاء طائفة المنافقين، ادعى بولتون بكلمات قاسية: "هناك اعتراضات جدية على حكومة آيات الله.
وخلال السنوات العشر التي شاركت فيها في هذه الأحداث، قلت دائمًا إن السياسة المعلنة للولايات المتحدة الأمريكية يجب أن تكون إسقاط نظام الملالي في طهران، وإن سلوكيات النظام وأهدافه لن تتغير، وبالتالي فإن الحل الوحيد هو تغيير النظام نفسه، ولهذا السبب يجب علينا بذل كثير من الجهود حتى لا تسطيع الجمهورية الإسلامية أن تستمر حتى عيد ميلادها الأربعين".
وكانت هذه السياسة موضوع العديد من الرسائل التي طرحها مستشارو ترامب الرسميون وغير الرسميين في أوقات مختلفة حول بساطة التخريب في إيران في حالة حدوث اضطرابات في المدن الإيرانية، وهناك العديد من الرموز التي تشير إلى أن التخريب كان السياسة الرسمية لإدارة ترامب، وعلى سبيل المثال، قال ريكس تيلرسون، أول وزير خارجية لترامب في عام 2017، خلال جلسة إقرار ميزانية مجلس الشيوخ عندما سأله أحد المشرعين عما إذا كانت إدارة ترامب تدعم "فلسفة تغيير النظام" في إيران، وأن سياسات الإدارة تجاه إيران قيد المراجعة، حيث قال "الولايات المتحدة ستحاول العمل مع جماعات المعارضة الإيرانية نحو انتقال سلمي للسلطة".
وبعد ترامب، وعلى الرغم من ادعائه في مواقف علنية أنه كان يبحث عن مفاوضات مع إيران بشأن خطة الاتفاق النووي، إلا أن جو بايدن، وراء الكواليس، وضع استمرار سياسة الحكومة السابقة على جدول الأعمال، بل استخدم محادثات فيينا لفرض شروط على الاتفاق النووي لتشوية أذهان الجمهور الإيراني وحاول في النهاية إثارة استياء الرأي العام.
حقبة ما بعد أعمال الشغب
في مثل هذا السياق وقعت أعمال الشغب عام 2022 وأصبحت ذريعة لاستخدام الحرب المشتركة للغرب ضد الجمهورية الإسلامية، وحاولت الحكومات الغربية مهاجمة الجمهورية الإسلامية بمزيج من الحرب السياسية والحرب الافتراضية وحرب الأخبار المزيفة، كانت أعمال الشغب هذه في الواقع نهاية لرغبة مهندسي سياسات ضغط العقوبات، وبالطبع اختبارًا لاختبار ادعائهم بأن التخريب في إيران من السهل تحقيقه من خلال الاعتماد على الضغوط المعيشية؛ والحقيقة أن الكثير منهم اعتقدوا أن الأمر قد انتهى، وقال جو بايدن نفسه في نوفمبر 2022: "لا تقلقوا؛ سنفعل ذلك قريبًا... سيحررون إيران قريبًا جدًا".
لكن بسبب عدم مشاركة قسم كبير من الشعب الإيراني، باءت هذه الاضطرابات بالفشل، الأمر الذي قضى فجأة على كل آمال الانقلاب لدى التيارات المناهضة لإيران وداعميها الغربيين، وجعلهم يدركون قوة جذور الحكومة الإيرانية، ويربط بعض المحللين بعض التطورات المتعلقة بإيران بعد اضطرابات عام 2022 بهذا الفشل لمشروع التخريب، على سبيل المثال، رغم أن العديد من الدوافع والعوامل لعبت دوراً في تشكيل الاتفاق بين إيران والسعودية في مارس 2022، إلا أن بعض المحللين لا يعتبرون فتح أعين السعودية على حقيقة قوة سيادة إيران في التراجع عن السياسات التدميرية والميل إلى اتفاق غير فعال.
ما لا شك فيه أن دونالد ترامب، فيما يتعلق بسياساته تجاه إيران، سيدخل البيت الأبيض في بيئة «ما بعد الاضطرابات»، وفي الجولة الأولى من رئاسته، رسم له أقاربه هذه الأجواء بأنه إذا كانت الاحتجاجات المشابهة لـ 2022 للجمهورية الإسلامية الإيرانية، والتي هي هدف حرب معرفية وإعلامية وسياسية ودبلوماسية من جبهات أخرى، فلن تدوم ولن ستستمر وسوف ينهار بسرعة.