الوقت - في هذه الآونة، تضاهي المواجهة الدبلوماسية بين قادة حماس والكيان الصهيوني في حدتها، الاشتباكات الضارية التي يخوضها أبطال المقاومة ضد آليات الکيان المدرعة في ميادين النزال.
فبعد عشرة أشهر من المقاومة الباسلة والتضحيات الجسام التي أنهكت قوى الکيان الإسرائيلي، تتجه الآن أبصار أهل غزة وفلسطين قاطبةً صوب أداء قادة المقاومة على طاولة المفاوضات، مترقبين نتائج هذه المعركة الدبلوماسية الحاسمة.
في الحقيقة، وفي هذا المنعطف التاريخي من الصراع، تدور رحى المعركة على الصعيد السياسي وفوق طاولة المفاوضات بنفس ضراوة الميدان، إن لم تكن أشد، حيث تشهد المفاوضات حول اتفاق وقف إطلاق النار في غزة وتبادل الأسرى والمعتقلين، صراعاً محتدماً حول التواريخ التي يتمسك بها كل طرف كأساس لمواقفه.
تصرّ حركة حماس على تنفيذ ما تم التوافق عليه في الثاني من يوليو، بينما يتشبث الكيان الصهيوني بما أعلنه من مبادئ أساسية في السابع والعشرين من مايو.
في 27 مايو، طرح الكيان الصهيوني مقترحاً جديداً أمام الوسطاء الثلاثة - الولايات المتحدة وقطر ومصر - يتضمن تنفيذ اتفاق ثلاثي المراحل، هذا المقترح ينتهك بصورة صارخة الخطوط الحمراء لحماس، ولا سيما فيما يتعلق بالانسحاب الكامل والفوري للقوات الصهيونية من أراضي غزة، والعودة الآمنة للنازحين إلى مناطقهم الشمالية، واستعادة حماس زمام السيطرة على محور فيلادلفيا على الحدود مع مصر في رفح.
يهدف هذا المخطط ثلاثي المراحل، الذي تمتد كل مرحلة منه على مدار 42 يوماً، إلى تحرير جميع المحتجزين الإسرائيليين في قطاع غزة، مدنيين وعسكريين، أحياءً كانوا أم أمواتاً، مقابل إطلاق سراح عدد متفق عليه من الأسرى الفلسطينيين.
المرحلة الأولى
يتضمن هذا المقترح في مرحلته الابتدائية "تعليقاً مؤقتاً للعمليات العسكرية" من كلا الطرفين المتنازعين، ويشمل ذلك انسحاباً تدريجياً للقوات الإسرائيلية نحو الشرق، "متجنبةً المناطق المأهولة بكثافة على امتداد الشريط الحدودي" في كل أرجاء قطاع غزة، بما في ذلك وادي غزة (محور نتساريم الاستراتيجي ودوار الكويت الحيوي).
ومع بزوغ فجر اليوم السابع (عقب إطلاق سراح سبع رهائن من النساء)، ستنفذ القوات الإسرائيلية انسحاباً شاملاً من شارع الرشيد الساحلي، متجهةً شرقاً صوب شارع صلاح الدين، وسيترافق هذا الانسحاب مع تفكيك دقيق للمنشآت والمرافق العسكرية، ما يمهّد الطريق أمام عودة آمنة وكريمة للنازحين إلى مساكنهم الأصلية.
وفي غضون اليوم الثاني والعشرين، ستشرع القوات الإسرائيلية في انسحاب استراتيجي من قلب قطاع غزة (مع التركيز بشكل خاص على محور نتساريم ودوار الكويت ذوي الأهمية البالغة) شرق شارع صلاح الدين، لتتمركز في منطقة محاذية للحدود.
ستبادر حركة حماس، خلال هذه المرحلة الحاسمة، بإطلاق سراح 33 رهينة إسرائيلية (سواء كانوا على قيد الحياة أو متوفين)، يشملون نساءً (من المدنيات والعسكريات)، وشباباً، وكبار السن (ممن تجاوزوا الخمسين عاماً)، وذلك مقابل الإفراج عن دفعة من الأسرى الفلسطينيين القابعين في السجون والمعتقلات الإسرائيلية.
وفي المقابل، تلتزم "إسرائيل" بتحرير 30 طفلاً وامرأةً فلسطينيةً مقابل كل أسير يتم الإفراج عنه، مع إيلاء الاعتبار الواجب للقوائم التي تقدمها حماس وفقاً لأولوية اعتقالهم وأهميتهم، وعقب ذلك، سيتم الشروع في إطلاق سراح كل النساء والأشخاص دون سن التاسعة عشرة، إضافةً إلى جميع الأسرى المسنين (ممن تجاوزوا الخمسين عاماً) من الجانب الإسرائيلي.
ووفقاً لهذا المقترح ذي الأبعاد المتعددة، تلتزم حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بتحرير كل الجنديات الإسرائيليات الأسيرات، اللاتي لا يزلن على قيد الحياة، وفي المقابل، يتعهد الكيان الإسرائيلي بإطلاق سراح خمسين أسيرة فلسطينية من معتقلاته، مقابل كل أسيرة إسرائيلية يتم الإفراج عنها.
وتتضمن هذه المجموعة المختارة بعناية ثلاثين سجينة ممن يقضين أحكاماً بالسجن المؤبد، إضافةً إلى عشرين أخريات لا يزال أمامهن خمسة عشر عاماً لاستيفاء مدة عقوبتهن.
أما فيما يخصّ الآلية الدقيقة لعملية تبادل الأسرى، فقد تم تفصيلها على النحو التالي: ستبادر حماس في اليوم الأول بإطلاق سراح ثلاثة أسرى إسرائيليين من المدنيين، تليها دفعة ثانية في اليوم السابع تشمل أربعة أسرى مدنيين إضافيين.
وعقب هذه المرحلة الأولية، تلتزم حماس بتحرير ثلاثة أسرى كل سبعة أيام، مع إعطاء الأولوية للنساء (سواء من المدنيات أو العسكريات)، مع التعهد بإطلاق سراح جميع الأسرى الأحياء قبل الشروع في تسليم رفات الأسرى المتوفين، ويُشترط على حماس، كإجراء لبناء الثقة، تقديم بيانات دقيقة وشاملة بحلول اليوم السابع، حول العدد الإجمالي للأسرى المزمع تحريرهم في هذه المرحلة الحاسمة.
وفي حال لم يصل عدد الأسرى الإسرائيليين الأحياء المحررين في هذه المرحلة إلى الثلاثة والثلاثين المتفق عليهم، يتعين على حماس استكمال هذا العدد بتسليم عدد مكافئ من رفات الأسرى المتوفين، مع مراعاة التوزيع الفئوي المحدد لهذه المرحلة.
کما يتضمن هذا المقترح الشامل التزاماً صارماً من الجانب الإسرائيلي بعدم إعادة اعتقال الأسرى الفلسطينيين المحررين، استناداً إلى التهم ذاتها التي سبق احتجازهم بموجبها، علاوةً على ذلك، يتعهد الطرف الإسرائيلي بالامتناع التام عن وضع أي خطط لإعادة الأسرى الفلسطينيين المحررين لاستكمال ما تبقى من مدة محكوميتهم، كما لن يُطلب منهم، تحت أي ظرف، التوقيع على أي وثائق تتعلق بالإفراج المشروط أو ما شابه.
ووفقاً للمقترح المقدم من الكيان الصهيوني، يتعين إتمام والاتفاق على شروط تنفيذ المرحلة الثانية من الاتفاق، بما في ذلك آلية تبادل المحتجزين والأسرى (المتبقين من الجنود والمدنيين الذكور)، في موعد أقصاه نهاية الأسبوع الخامس من المرحلة الأولى.
وفي هذا السياق، يوافق الكيان الإسرائيلي على تعليق حركة الطيران (العسكري والاستطلاعي) فوق قطاع غزة "بشكل مؤقت" لمدة عشر ساعات يومياً، مع تمديدها إلى اثنتي عشرة ساعة في الأيام التي تشهد عمليات تبادل المحتجزين.
علاوةً على ذلك، سيتم الشروع في إعادة إعمار البنية التحتية، شاملةً المنازل والمنشآت والبنى الأساسية المدنية التي تعرضت للدمار خلال فترة النزاع، وسيتم إرسال الكمية المتفق عليها من المعدات اللازمة لإزالة الأنقاض.
واستناداً إلى هذا المقترح، سيتم، اعتباراً من اليوم الأول للاتفاق، إدخال كميات متزايدة وكافية من المساعدات الإنسانية والإغاثية والوقود (ستصل إلى 600 شاحنة يومياً، منها 50 شاحنة وقود و300 شاحنة موجهة إلى شمال قطاع غزة).
وعقب الإفراج عن جميع الجنديات الإسرائيليات، سيسمح الكيان الإسرائيلي بزيادة عدد المسافرين والمرضى والجرحى عبر معبر رفح. وفي الوقت ذاته، سيتم رفع القيود المفروضة على السفر واستئناف حركة البضائع والتجارة.
المرحلتان الثانية والثالثة
وفقًا للمقترح المطروح، ستمتد المرحلة الثانية على مدار اثنين وأربعين يومًا، يتم خلالها إرساء دعائم الاستقرار المستدام، متمثلاً في الوقف التام والشامل للعمليات العسكرية وكل أشكال الأعمال العدائية.
كما سيشهد هذا الإطار الزمني عملية تبادل شاملة لجميع الأسرى المتبقين بين الطرفين، مقرونةً بانسحاب كامل ونهائي للقوات الإسرائيلية من قطاع غزة.
وعلى نفس المنوال، ستمتد المرحلة الثالثة لفترة مماثلة قوامها اثنان وأربعون يومًا، وستشهد هذه المرحلة الشروع في تنفيذ خطة طموحة لإعادة إعمار قطاع غزة، ممتدةً لفترة تتراوح بين ثلاث إلى خمس سنوات.
وستتضمن الخطة تقديم الدعم الشامل لكل المتضررين من تداعيات الحرب، وذلك تحت إشراف دقيق من قبل مجموعة من الدول والمنظمات الدولية، في مقدمتها مصر وقطر والأمم المتحدة، وسيترافق ذلك مع إعادة فتح المعابر الحدودية، وتيسير حركة الأفراد، وتدفق البضائع بشكل سلس ومنتظم.
مقترح السلام: شَرَك مُقنَّع بغلاف دبلوماسي
إن المخطط الذي وضعه نتنياهو، يمثّل في جوهره الأساس الذي استندت إليه الولايات المتحدة في صياغة مقترحها المقدم لحركة حماس خلال جولة المفاوضات الأخيرة في الدوحة، والتي جرت يومي الخامس عشر والسادس عشر من شهر أغسطس، وقد مارست الولايات المتحدة ضغوطًا حثيثةً على حماس لقبول هذا المقترح، إلا أن الحركة أبدت رفضًا قاطعًا للامتثال له.
والتمعن في بنود هذا المقترح، يكشف عن تصميمه بطريقة لا تقدّم أي ضمانات حقيقية لإنهاء الصراع، بل إن المقترح يتجاهل تمامًا مسألة الانسحاب الكامل والفوري للقوات الإسرائيلية من قطاع غزة، كما أنه لا يتطرق إلى إعادة السيطرة على الحدود إلى الجانب الفلسطيني.
من منظور آخر، فإن هذا المخطط مصمم بحيث يُفقد حركة حماس، منذ المرحلة الأولى وقبل انقشاع ظلال الحرب عن غزة، جميع أدوات التفاوض وأوراق الضغط التي تمتلكها، وذلك من خلال الإفراج عن الأسرى.
وبلا شك، سيغتنم نتنياهو وحكومته المتطرفة هذه الفرصة، مستفيدين من تخفيف الضغوط الداخلية بعد تحرير الأسرى الصهاينة، ليشرعوا - بكل أريحية وبضوء أخضر أمريكي - في مواصلة جرائمهم وعمليات القتل وحصار غزة، سعيًا لتقويض المقاومة وتهجير الفلسطينيين خارج القطاع.
ويتحدث المقترح عن انسحاب القوات الإسرائيلية من المناطق المكتظة بالسكان، وليس عن خروج شامل ودفعةً واحدةً من كامل أراضي غزة، كما تطالب حماس، وعليه، لا توجد أي ضمانات بأن الصهاينة سيتخلون عن محاور الاتصال ومواقعهم المحتلة بعد المرحلتين الأولى والثانية.
إن محور فيلادلفيا ومعبر رفح يمثّلان شريان الحياة لغزة، ولكن المقترح يتحدث فقط عن تقليص الوجود الرقابي الإسرائيلي، وليس عن إنهاء كامل لسيطرة الصهاينة عليهما. وبالتالي، سيستمر جزء كبير من الحرب الاقتصادية التي يشنها الكيان ضد غزة.
کما يسعى الصهاينة، منذ المرحلة الأولى، إلى سد الفجوة المعلوماتية لديهم حول وضع الأسرى لدى حماس، ما سيمكّنهم من تقديم أقل قدر ممكن من التنازلات لحماس، في المراحل اللاحقة من عملية تبادل الأسرى والسجناء.
وفي هذا السياق، من الأهمية بمكان إدراك أن الولايات المتحدة ليست طرفًا محايدًا أو وسيطًا نزيهًا في المفاوضات، بل إنها تلعب دور "الشرطي الطيب" في محاولة لفرض شروط الکيان الصهيوني على حماس.
وفي الواقع، فإن الولايات المتحدة، التي تدير المشهد بشكل غير مباشر في ساحة المعركة، من خلال إرسال الأسلحة وتقديم الدعم السياسي، تسعى أيضًا إلى السيطرة على مسار المفاوضات المتعلقة بوقف إطلاق النار، وكيفية إنهاء الحرب.
وفي سياق التطورات الدبلوماسية المتسارعة، أدلى أحد الشخصيات القيادية البارزة في حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، بتصريحات ذات دلالات عميقة لشبكة الجزيرة الإعلامية، عقب جولة المفاوضات المكثفة في العاصمة القطرية الدوحة، حيث وجّه انتقادات لاذعة للمبادرة الأمريكية الحديثة، مؤكداً أنها لا تعدو كونها انعكاساً لمصالح القوة المحتلة وتلبية لمطالبها.
وفي تطور لافت، أصدرت حركة حماس، يوم الأحد الماضي، بياناً رسمياً يحمل في طياته تحليلاً دقيقاً للموقف الراهن، حيث أشارت الحركة إلى أن المقترح الأمريكي الأخير يكاد يكون نسخةً طبق الأصل من الرؤية التي طرحها بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، في الآونة الأخيرة.
وأوضح البيان، بلغة دبلوماسية محكمة، أن المبادرة الجديدة "تتماهى بشكل جلي مع اشتراطات نتنياهو، وتنسجم معها انسجاماً تاماً"، ويتجلى ذلك بوضوح في إصراره على رفض وقف الأعمال العدائية وسحب القوات الإسرائيلية من قطاع غزة، بما في ذلك المنطقة الحدودية الاستراتيجية مع مصر، وشددت الحركة على أن هذين العنصرين يشكّلان حجر الزاوية وأساساً لأي تسوية مستقبلية.
واختتمت حماس بيانها بتأكيد راسخ على التزامها الثابت والراسخ بالمقترح السابق الذي تم تقديمه في الثاني من يوليو/تموز، ما يعكس ثبات موقفها وعدم تزحزحها عن مبادئها الأساسية.
مبادرة حماس في الثاني من يوليو: رؤية استراتيجية متكاملة في خضم الأزمة الراهنة
في أعقاب الطرح الأمريكي المثير للجدل، الذي تجلى خلال الجولة الأخيرة من المباحثات الدبلوماسية في الدوحة، والذي بدا وكأنه صيغ بدقة متناهية لتلبية مطامح الكيان الصهيوني، قدّمت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في الثاني من يوليو/تموز رؤيتها الاستراتيجية المتكاملة للوسطاء الدوليين.
هذا المقترح، الذي صيغ بحنكة دبلوماسية فائقة، يستند في جوهره إلى المواقف الأولية التي أبداها الرئيس الأمريكي جو بايدن بشأن خطة وقف إطلاق النار ثلاثية المراحل، كما يتناغم بشكل وثيق مع روح وفحوى قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2735.
حيث أكدت حماس، التي آثرت الابتعاد عن المشاركة المباشرة في المفاوضات، تمسكها الراسخ بثوابتها الاستراتيجية غير القابلة للمساومة، وتتمحور هذه الثوابت حول الإنهاء الفوري والشامل للعمليات العسكرية، والانسحاب الكامل وغير المشروط للقوات الصهيونية من أراضي قطاع غزة، وشددت الحركة على أن أي اتفاق مستقبلي، يجب أن يكون ضامناً لـ "وقف العدوان على شعبنا الصامد، والانسحاب التام من قطاع غزة".
مع اختتام الفصل الأخير من مفاوضات الدوحة، تشير المصادر الدبلوماسية إلى استمرار المحادثات بين وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في مسعى لتهيئة الأرضية المناسبة لاتفاق محتمل.
إلا أن مكتب نتنياهو، في أول تصريح رسمي له عقب انتهاء مباحثات الدوحة، دعا إلى مواصلة الضغوط الدبلوماسية الأمريكية على حماس لقبول المبادئ الأساسية لمقترح 27 مايو/أيار، مؤكداً أن "ثوابتنا الاستراتيجية باتت معلومةً للوسطاء والجانب الأمريكي".
إن هذه الإشارة الدبلوماسية، قد ألقت بظلال من الشك والريبة على آفاق التوصل إلى اتفاق في المستقبل القريب، ومع ذلك، وخلافاً للتصورات التي يتبناها نتنياهو، فإن اندلاع موجة جديدة من العمليات العسكرية النوعية لكتائب عز الدين القسام في عمق تل أبيب، إلى جانب اقتراب لحظة الحسم والثأر من قبل محور المقاومة، يجعل تكلفة فشل المفاوضات بالنسبة للكيان الصهيوني أعلى بكثير مقارنةً بحماس، التي لن تخسر شيئاً.