الوقت - في مدينة تبدو وكأنها باردة حتى في ذروة صيفها، في رُكنٍ صامت من بروكسل، يقف رجلٌ نحيلٌ بلحية منسدلة وشعرٍ أبيض كثيف، تغور عيناه تحت ظلال التعب، لكن عينيه لا تزالان تشعّان بما يشبه الاحتراق الداخلي. اسمه غريان كوتاندا، أديب وأكاديمي إسباني، لكنه اليوم ليس في ندوة أدبية ولا مؤتمر تربوي، بل في مواجهة صامتة مع أوروبا، مع العالم، مع الإنسانية المتعبة.
كل صباح، يُنهض جسده المنهك من فراش الجوع، يلفّ وشاحه، ويتجه صوب بوابات البرلمان الأوروبي، أو يقف وحيدًا أمام مقر الناتو، أو يلوّح بلافتة أمام متحفٍ يعجّ بالسياح لكنه يخلو من الضمير. بات وجهه معروفًا في أروقة السياسة، يُعرَف بالصمت الذي يصرخ، وبالنظرات التي تُشبه سؤالًا مؤلمًا: "أين ذهبتم بإنسانيتكم؟"
بحثت عنه طويلاً بين الناشطين، بين الاعتصامات، بين الشوارع. كان صعب المنال، لا لأنه يختبئ، بل لأنه لا يُعلن عن نفسه. حتى وصلتني رسالة مقتضبة: "سأكون اليوم أمام البرلمان الأوروبي، نلتقِ هناك".
وهناك كان. واقفًا، ثابتًا، يرفض الجلوس رغم أن جسده لم يذق طعامًا منذ أكثر من خمسة أسابيع. همست له بلطف: "دعنا نبتعد قليلًا عن الضجيج لنتحدث". أمسك بذراع رفيقه، وابتسم لي قائلاً: "دعنا نلتقط صورة جماعية أولًا.. نحن هنا معًا، من أجل غزة".
من غرناطة إلى غزة.. مسار الضمير
غريان كوتاندا ليس شخصية هامشية. هو أستاذ جامعي حاصل على دكتوراه دولية في العلوم التربوية من جامعة غرناطة، ومتخصص في علم النفس السريري والاجتماعي. كاتب صدرت له عشرات المؤلفات، وترجمت روايته "البستاني" إلى 13 لغة.
لكن كل هذه الإنجازات لم تمنعه من خلع عباءة "النخبة"، والنزول إلى الشارع، واقفًا إلى جانب طفل لا يعرفه في غزة، قُطّع جسده تحت الأنقاض، وتحول جسده الصغير إلى سؤال كبير يشطر الضمير العالمي نصفين.
قال لي: "رأيت فيديو لطفل من غزة، عمره عامان، يظهر جسده من تحت الركام بلا رأس. شعرت وكأن يدي احترقت. لم أفكر، فقط تحركت. أدركت أن الصمت خيانة. لا يمكن أن أبقى ساكنًا".
منزل في لاهاي.. وبداية معركة الجوع
بدأ غريان إضرابه عن الطعام من منزله يوم 10 يونيو/حزيران 2025. لم يعلن عن الأمر، لم يبحث عن أضواء. لكنه بعد أيام، حمل جسده إلى لاهاي، إلى قصر السلام، حيث مقر محكمة العدل الدولية. هناك، في لحظة رمزية خلال فعالية قانونية، أعلن من قلب العدالة الدولية بدء معركته الجسدية.
ثم جاء إلى بروكسل، المدينة التي تحمل مفاتيح أوروبا الرسمية، وقال: "إذا لم يسمعوا صراخ غزة، فليحسّوا بجوع جسدي". لم يكن الأمر مجازًا. كان يعني ما يقول.
ليس وحده.. لكن وحده يجوع
شارك كوتاندا في إطلاق حملة "الصيام العالمي من أجل الحياة في غزة"، التي التحق بها أكثر من 130 شخصًا من 24 دولة، يصومون لساعات تضامنية، لكن وحده كوتاندا يخوض إضرابًا كليًا عن الطعام.
قال لي: "يشرب الناس قهوة الصباح بينما يُدفن أطفال غزة تحت الركام. أنا أشرب قهوة بلا كافيين، مع حليب اللوز، وأتناول الفيتامينات لأواصل الوقوف. طاقتي تنخفض كل يوم، لكن غزة لا تنام، ولا يمكن لي أن أنام عنها".
"أنتم تمارسون النفاق"
عندما سألته عن رسالته إلى السياسيين الأوروبيين، لم يتردد:
"أنتم تمارسون النفاق. تتحدثون عن حقوق الإنسان وتبيعون السلاح لإسرائيل. لا تمثّلون شعوب أوروبا".
استشهد باستطلاع في بلده إسبانيا قال فيه 82% من المواطنين إن ما يجري في غزة إبادة جماعية. وأضاف: "حتى محكمة العدل الدولية أوصت بعقوبات، لماذا لا تتحركون؟".
مطالب كوتاندا واضحة:
تعليق اتفاق الشراكة مع إسرائيل.
فرض عقوبات على حكومة نتنياهو والشركات المتواطئة.
وقف صفقات السلاح.
استدعاء السفير الإسباني من تل أبيب.
المدينة تمشي.. وتمرّ عليه كالحائط
وقف غريان ذات يوم في ساحة البورصة وسط بروكسل، حاملًا لافتة تقول إنه في يومه الخامس والثلاثين من الإضراب. مرّ الناس أمامه كأنهم يمرّون بجانب حجر. رجل واحد قال "نعم، نعم"، ومضى.
قال بمرارة: "كأن الشر في غزة أصبح مثل أسطورة ميدوسا.. من ينظر إليه يتحجر".
صديق الروح: خافيير
إلى جانبه دائمًا رجل يُدعى خافيير. بدا في البداية رفيقًا صامتًا. لكن حين تحدث، كشف عن ماضٍ ثقيل في البيروقراطية الأوروبية. شغل مناصب رفيعة في المفوضية الأوروبية، وكان نائبًا لرئيس وحدة العلاقات الدولية.
قال للجزيرة: "عملت في البنى الرسمية سنوات طويلة، وسافرت كثيرًا، لكن هذه اللحظة بجانب غريان، هي الأكثر صدقًا في حياتي".
ثم ابتسم بحياء وأضاف: "غريان ومانويل هما ملاكان. أنا مجرد ملاك صغير".
"بعد عشرين سنة، سيشعر الجميع بالذنب"
في ختام الحديث، عاد غريان ليتحدث بصوت يختلط باليأس والحكمة:
"في ألمانيا، بعد الحرب العالمية الثانية، شعر الناس بالذنب 80 عامًا، رغم أنهم لم يعرفوا ما كان يحدث في معسكرات الإبادة. لكن الآن؟ العالم كله يرى غزة. بالصوت والصورة. فما حجم الذنب الذي سيحمله ضمير البشرية بعد 20 سنة؟ سيكون عميقًا جدًا.. وربما لا يُشفى أبدًا".
قاطعه خافيير قائلاً: "الأمر لا يخص غزة فقط، بل مصير الحضارة. إذا لم نتحرك الآن، فإننا نتجه نحو ظلام عميق".
غريان.. المرآة التي تكسر الصمت
وأنا أغادره، كان لا يزال واقفًا، لا يطالب بشيء لنفسه، لا يريد اعترافًا ولا بطولة، فقط أن تتوقف إبادة غزة. فقط أن لا يُترك الفلسطينيون وحدهم في جوعهم، في صمتهم، في موتهم.
في عالمٍ امتلأ بالخطابات الرسمية والقمم السياسية، وقف جسد غريان الهزيل شاهقًا، يقول ما لا تقوله برلمانات كاملة:
إذا صمت العالم، فإن الضمير سيتشظى.. وإن بقي شيء من الإنسانية، فلن ينقذه إلا الألم الصادق.