الوقت - كتب الدکتور سعد الله زارعي في مقال: في غضون ما يقرب من أسبوعين، وضعت مجموعة متنوعة من الأحداث الکيان الصهيوني في مأزق وعر.
إن عملية "الوعد الصادق" الرهيبة، وتورط حلفاء "إسرائيل" في المنطقة - وتحديداً تركيا والأردن - مع ما يترتب على تعاونهم مع هذا الکيان خلال عملية "الوعد الصادق"، من مظاهرات حاشدة مناهضة للکيان الإسرائيلي في جامعات أمريكية مهمة وكبيرة وعشرات الجامعات في أوروبا، والصراع بين قوات الأمن وإنفاذ القانون والجيش في هذه الدول مع الطلاب والأساتذة المحتجين، واستعداد محكمة لاهاي الدولية لإصدار أوامر اعتقال بحق القادة السياسيين والعسكريين للکيان بتهمة جريمة الإبادة الجماعية، واحتدام المواجهات بين الشباب الفلسطيني وقوات الأمن العسكرية التابعة للکيان في الضفة الغربية، واحتدام الخلافات بين أعضاء مجلس الوزراء العسكري الإسرائيلي، وتكثيف عمليات حزب الله الهجومية وتوسعها إلى عمق 15 كيلومتراً من عمق الکيان، وتطور إجراءات أنصار الله اليمنية ضد السفن المرتبطة بالکيان، خلقت نظاماً متشابكاً من الإجراءات ضد "إسرائيل"، وهي بلا شك غير مسبوقة في تاريخها المخزي.
وفي هذا الصدد، هناك عدة نقاط:
1- قالت بعض الشخصيات الغربية المعروفة، ومن بينها "جون ميرشايمر"، في مقابلة مع "بيرس مورغان" في الـ27 من أبريل/نيسان، إن غباء "إسرائيل" هو الذي دفع إيران، من خلال مهاجمتها القنصلية الإيرانية، إلى التحرك على الأرجح نحو حيازة أسلحة نووية، وأنا أقول إذا حصلت إيران على أسلحة نووية، فإن العالم سيكون أكثر أماناً.
هذا التصريح يعني أن الکيان خسر في لعبة الحرب، رغم امتلاكه شبكةً من المستشارين الغربيين ذوي الخبرة ورغم حصوله على دعمهم، ويمكن لجبهة المقاومة أن تتحكم في تصرفات المتنافسين المخضرمين من خلال امتلاكها لأوراق لم تستخدمها بعد.
وبالطبع، في المشهد الأخير، لم تكن مواجهة إيران مع عدة قوى نووية مواجهةً من موقع نووي، وهذا يدل على أن ميزان القوى الكلاسيكي قد شهد بالفعل تغييرات.
2- عملية الوعد الصادق فتحت صفحةً جديدةً في المنطقة، هذه الصفحة ليست فقط دليلاً على قوة إيران، بل إنها أيضاً تفتح فصلاً جديداً من العلاقات مع الحكومات الإقليمية.
والآن تواجه المنطقة حقيقتين، تميل طوعاً أو كرهاً نحو إحداهما، الأولی هي أن الحكومات الغربية، وخاصةً الولايات المتحدة وبريطانيا، قد أضعفت هذه الدول عملياً من خلال الهيمنة على الدول العربية وغير العربية في المنطقة لعقود من الزمن، وضحت في نهاية المطاف بمصالحها لمصلحة "إسرائيل"، واليوم وضعت هذه الحكومات أمام شعوبها، وجعلت أسسها تواجه تهديدات داخلية.
والحقيقة الأخرى هي أن الدولة التي كانت تحت التهديد الأكبر من القوى الغربية على مدى الأربعين عامًا الماضية، قد وصلت إلى قدرات لم تعد القوى الغربية قادرةً على هزيمتها حتى في شكل تحالف.
إيران ليست قوةً معتديةً، والضمير العام في المنطقة يقول إن الحكومة، التي تجاهلت حتى السلوك العدائي لجيرانها طوال الأعوام الخمسة والأربعين الماضية، لا تسعى إلى تهديدهم، إضافةً إلى ذلك، تدرك دول المنطقة أنه من المستحيل أن تقف موقف المتفرج في المواجهة بين دولة إسلامية والقوى الغربية.
وفي مثل هذه الحالة، فإن إقامة علاقة إقليمية قوية والاتفاقيات الثنائية والمتعددة الأطراف داخل المنطقة، من الممكن أن تعمل على خلق عمق أمني طويل الأمد للجميع، ومنع أي أحداث أمنية سلبية.
3- تعتبر موجة الاحتجاجات والاعتصامات في جامعات مهمة جداً في أمريكا والدول الأوروبية وانتشارها إلى جامعات في أنحاء أخرى من العالم، "ظاهرة مهمة" لقضية خارج حدودها الوطنية.
من الطبيعي أن يخرج سكان بلد ما إلى الشوارع حول قضية أو حدث داخلي، مثل ما حدث خلال حركة وول ستريت في أمريكا أو حركة السترات الصفراء في فرنسا، لكن حقيقة خروج جامعات دولة ما إلى الشوارع لأيام متتالية ودفع تكاليف الطرد والمراقبة والغرامات المالية والسجن والضرب، في قضية ليست ضمن حدودها الجغرافية ولا حتى حدودها العرقية والدينية، هي ظاهرة مهمة جداً، وتظهر أن هناك صدعًا عميقًا بين أنظمة الحكم الغربية الداعمة للصهيونية ومواقف النخب، حتى في الجامعات التي يتم تأسيسها وإدارتها بأموال وشركات أسلحة يهودية.
ومن الناحية المعرفية، فإن الجيل الجديد في الغرب جاء من الهامش إلى الساحة، وقبل ذلك كانت هناك احتجاجات خفية "مناهضة للحرب" لم يكن لها بعد اجتماعي أو نظامي، لكن الآن ظهرت حركة احتجاجية شاملة داخل النظام الغربي، يمكنها الدخول في قضايا مختلفة، وتؤدي إلى تطورات مهمة.
ويبدو أن هذا هو بالضبط السبب الذي دفع الحكومات الأمريكية والبريطانية والفرنسية، إلى إظهار كل قوتها الصلبة والناعمة علناً في مواجهة هذه الحركة، رغم شعارات الحرية والديمقراطية.
تمثّل هذه الحركة تحدياً أساسياً لإدارة بايدن، وقد خلقت لها الكثير من المتاعب، وليس لدى الحزب الديمقراطي الكثير من الوقت، ولا توجد مؤشرات على أن نهاية حرب غزة قريبة، ولذلك، تستمر الاحتجاجات في دوائر النخبة، وثنائية مؤيدي "إسرائيل" ومعارضيها ستلحق الضرر ببايدن والحزب الديمقراطي.
4- إن عملية التطورات في المنطقة وضعت تركيا والأردن في موقف ضعيف، بسبب تعاونهما مع الکيان الإسرائيلي خلال عملية الوعد الصادق، والتصريحات التبريرية المتوالية لرجب طيب أردوغان والملك عبد الله، تظهر المأزق الذي وقعا فيه.
ويظهر الوضع في المنطقة أنه لا يمكن لأي بلد مسلم أن يقف على الحياد في صراع يكون فيه شعب غزة المضطهد، والشهداء والجرحى والمشردون من النساء والأطفال الفلسطينيين طرفاً فيه، ناهيك عن أنهم يقفون إلى جانب الکيان الإسرائيلي وضد الفلسطينيين، مثل حكومتي تركيا والأردن.
خلال الأيام التي تلت "الوعد الصادق"، حاولت الصحافة التابعة لرجب طيب أردوغان أولاً حرف الموضوع، والتغطية على التعاون الاستخباراتي مع الکيان الإسرائيلي من خلال تسميتها "الحرب الإيرانية الإسرائيلية".
لكن هذا لم يكن شيئًا يمكن قبوله، لذلك ادعى أردوغان أنه "لم يكن هناك تعاون استخباراتي بين قاعدة انجرليك و"إسرائيل"، وعادةً ما تتبادل هذه القاعدة المعلومات مع شركائها، أي أمريكا وفرنسا وبريطانيا"، بينما يعلم أنه في ليلة عملية الوعد الصادق، شكلت هذه الدول الثلاث "حلقة نار" للدفاع عن الکيان الإسرائيلي، ودخلت رسمياً في حرب مع الطائرات دون طيار والصواريخ الإيرانية.
بدوره، ومن أجل التهرب، زعم الملك عبد الله أن "الحرب في غزة أصبحت ساحة انتقام لإيران و"إسرائيل"، ونحن العرب لن نكون ضحايا هذه الحرب"، ومع ذلك فهو يعلم جيداً أن الفلسطينيين هم أول من شعر بالارتياح والنصر من العمليات الإيرانية، ومن المؤكد أن حكومة أردوغان في تركيا وحكومة عبد الله في الأردن، ستريان الرد على خيانتهما للمسلمين ليس من إيران بل من شعبيهما.
ومن المؤسف أن نقول إن بعض الحكومات في المنطقة، رغم الضرر الذي ألحقه الغرب باستقلالها وكرامتها على مدى عقود، حتى في المواجهة بين دولة إسلامية والغرب، تعتبر نفسها جزءاً من الجبهة الغربية، وقد سلموا أراضي بلادهم وإمکاناتها للکيان الإسرائيلي ليهزم الجانب الإسلامي، والمثير في الأمر أن بعضهم يختبئ وراء قناع الإسلاموية.
5- جيش الكيان الصهيوني يتأهّب منذ أسابيع للهجوم على رفح، ورغم إعلانه أن لديه خطة جاهزة لهجوم واسع النطاق على هذه المدينة، إلا أن هذا الهجوم لم يحدث.
وبالنظر إلى الوضع الفوضوي الذي يعيشه الکيان، يبدو أن الجيش يواجه الكثير من الصعوبات في العمليات، وهذه الصعوبات يمكن أن تحوّل التدمير غير المجدي لرفح إلى تحدٍّ جديد له.
وهذه القضية بحد ذاتها، إلى جانب استئناف إطلاق الصواريخ من منطقة شمال غزة وتأكيد حماس على شروطها في المفاوضات السياسية، تبين الوضع الذي يعيشه الکيان الإسرائيلي.