الوقت- بعد ساعات فقط من المجزرة التي شنها الجيش الصهيوني الغاصب على مستشفى المعمداني بغزة وقتل مئات الجرحى المدنيين بينهم نساء وأطفال وشيوخ، توجه الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى الأراضي المحتلة، وعند وصوله احتضن جزار الفلسطينيين بنيامين نتنياهو ثم بكل وقاحته، ليغسل يدي الصهاينة، مكرراً الرواية الكاذبة المتمثلة في التعريف بفصائل المقاومة على أنها مرتكبة الجريمة.
وفي هذه الأثناء، على الرغم من أن قلة من الناس في العالم توقعوا أن رئيس الولايات المتحدة، الذي يعرّف نفسه علنًا على أنه صهيوني، سيرغب في اتخاذ إجراء عقابي أو اتخاذ موقف بإدانة الهجوم الوحشي الذي قام به الصهاينة، مع الأخذ في الاعتبار الفترة الطويلة التي مر عليها تاريخ دعم الغرب للاحتلال الصهيوني، وخاصة الولايات المتحدة، لكن هذا الإجراء الذي قام به بايدن، والذي على الرغم من إلغاء الاجتماع الرباعي المقرر مع رؤساء مصر والأردن والسلطة الفلسطينية، قام بزيارة إلى الأراضي المحتلة لا تجلب إلا عبئاً أسود على البيت الأبيض في نظر الرأي العام العالمي.
على كل حال إن ما نناقشه في مقالنا هذا هو تحليل هذا السلوك الأمريكي المبني على السياسة الخارجية والآثار الإقليمية والدولية الكبيرة جدا لعملية طوفان الأقصى، والتي يمكن القول إن الصهاينة يدركون أيضا أهمية حرب غزة الأخيرة، وإن أمريكا هي التي لا ترى أي حدود للجريمة والجشع.
بادئ ذي بدء، من المبادئ الراسخة في مجال السياسة والسلطة في الولايات المتحدة أن جميع الرؤساء الأمريكيين، سواء كانوا ديمقراطيين أو جمهوريين، يجب عليهم أولاً أن يعلنوا ويثبتوا ولاءهم بشكل كامل لمصالح النظام الصهيوني في السياسة الخارجية.
إن دور اللوبي الصهيوني، الذي يمتلك أدوات مالية ودعائية قوية للغاية في الساحة السياسية الأمريكية، قد تم الكشف عنه لجميع المراقبين السياسيين اليوم، ولا يخفي السياسيون الأمريكيون حتى ارتباطاتهم الواسعة بهذا اللوبي، لذلك، عشية الانتخابات الرئاسية الأمريكية العام المقبل، وبينما هناك انتقادات داخلية كثيرة لأداء بايدن وحتى قدرته الجسدية على البقاء في البيت الأبيض، فإن الحاجة إلى إرضاء دعم اللوبي الصهيوني هي بالتأكيد أحد أهم الأمور والعوامل التي دفعها الرئيس الحالي لإجبار الولايات المتحدة على التخلي عن كل أقنعة الحقوق الإنسانية والأخلاقية والذهاب إلى الأراضي المحتلة.
في هذه الأثناء، حتى رؤساء الدول الغربية الأخرى لم يستطيعوا إخفاء استغرابهم من جريمة الصهاينة الجديدة واتخذوا مواقف فاترة في إدانة هذه الجريمة ضد ضغوط الرأي العام، لكننا نرى أن الرئيس الأمريكي بايدن يعطي حقه المطلق وغير المحدود، وأعلن دعمه للصهاينة، كما أعلن وزير خارجيته بلينكن أيضًا أنه سيأتي إلى "إسرائيل" كيهودي وأكد على "حق إسرائيل وحتى واجبها" في قتل وتدمير الفلسطينيين.
ويكشف كتاب جون ميرشايمر وستيف والت، الأستاذان الأمريكيان البارزان في العلاقات الدولية، بعنوان "السياسة الخارجية الأمريكية واللوبي الإسرائيلي" تفاصيل كثيرة عن دور اللوبي اليهودي في اختطاف السياسة الخارجية الأمريكية من قبل الصهاينة، وقد توصل هذان المنظران في هذا الكتاب إلى نتيجة مفادها بأن المحرك الرئيسي للسياسة الأمريكية تجاه "إسرائيل" هو مصالح "إسرائيل"، التي ينظمها اللوبي الإسرائيلي، وليست مصالح أمريكا.
إنهم يتحدثون عن جهد منظم ومستدام على مدى عقود من قبل المنظمات والقوى الصهيونية المؤيدة لـ"إسرائيل"، وخاصة إيباك، وكذلك اليمين المسيحي ومنظمات المحافظين الجدد، ما أدى إلى وضع سيء تشهده الولايات المتحدة حاليا.
وفي المقابل هناك من يرى أن سياسات الكيان الصهيوني تتوافق تماماً مع المصالح الأمريكية، وحسب ما قاله ستيوارت سيمينغتون، وزير الطيران الأمريكي الأسبق، مباشرة بعد إنشاء هذه المؤسسة، فإن الأمريكيين يعتبرون "إسرائيل" حاملة طائراتهم غير القابلة للغرق، وهذه قاعدة يمكن الوثوق بها في القضايا العسكرية والاستراتيجية في الشرق الأوسطن وكما قال عضو الكونغرس الجمهوري جوزيف ماركوماك: "إن إسرائيل هي الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي يمكننا الاعتماد عليها، ولا يمكننا الاعتماد على أي شخص آخر".
لذلك، من المتوقع تمامًا أنه عندما تفتح الحكومة الأمريكية ترسانتها من الأسلحة في المنطقة للصهاينة وتقدم قنابل موجهة غير قانونية وثقيلة إلى تل أبيب، فإنها تعطي ختم موافقتها على جرائم النظام. أما الجانب الآخر من القصة فهو في مجال النظام في المنطقة، الذي يتغير بشكل أسرع مع طوفان الأقصى ويعرض مصالح الولايات المتحدة والكيان الصهيوني للخطر.
ونتيجة للانتصار الأخير الذي حققته قوى المقاومة في عملية طوفان الأقصى، يمكن القول إن حماس الآن في موقع حققه حزب الله اللبناني بعد الانتصار التاريخي في معركة 33 يوما عام 2006 وثبت نفسه كقوة جديدة تدخل في المعادلات الإقليمية.
والآن، ومن خلال زيادة مدى إطلاق الصواريخ وحشد جبهات أخرى، بما في ذلك في الضفة الغربية، تظهر حماس عملياً نفسها باعتبارها اللاعب الرئيسي في مشهد التطورات الفلسطينية، وتتقلص مكانة السلطة الفلسطينية إلى حد كبير.
خلال فترات الصراع السابقة بين المقاومة في غزة والكيان الصهيوني (2008-2009، 2012، 2014 و2018 وعملية سيف القدس 2021)، أثبتت حماس أنها قادرة على تغيير طبيعة المفاوضات لمصلحة الفلسطينيين.
وينبغي الأخذ في الاعتبار أنه بعد خسارة جزء كبير من الأراضي المتبقية في الضفة الغربية في مفاوضات المصالحة، فإن الخيار الوحيد أمام الشعب الفلسطيني للحصول على حق الحرية والعودة هو خيار المقاومة المسلحة، وقد لقي هذا النهج ترحيباً من غالبية الشعب الفلسطيني، وتسبب بدوره في تفكك وبطلان البنى السياسية التي فرضها اتفاق أوسلو على الفلسطينيين، وخاصة منظمة السلطة الفلسطينية ومسؤوليها.
إن حقيقة أن منظمة السلطة الفلسطينية ساعدت بشكل أساسي في تعزيز المصالح الصهيونية قد اعترف بها المحللون الصهاينة مثل ييجال ليفي، وهو صحفي إسرائيلي، ويعتقد أن اتفاقيات أوسلو تم إنشاؤها من قبل الجيش الصهيوني لضمان السيطرة على الضفة الغربية وقطاع غزة.
وفي الواقع، فإن قبول النظام الصهيوني لاتفاق أوسلو ركز في المقام الأول على القضايا الأمنية (الحفاظ على المستوطنات غير القانونية والسيطرة على الأراضي المحتلة) وليس على التطلعات السياسية للفلسطينيين لتشكيل دولة مستقلة.
ومع وصول حماس إلى السلطة، فإن عملية تطبيع العلاقات بين العرب والكيان الصهيوني، باعتبارها مشروعاً أمريكياً كبيراً لتغيير واقع النظام الإقليمي لمصلحة الغرب، ستعاني كثيراً، وبعد اتخاذ خطوات متسرعة على ما يبدو لانضمام السعودية إلى عملية التطبيع في الأشهر الماضية، توخت الرياض الحذر في البداية نتيجة لتصاعد الصراعات في الضفة الغربية، والآن، مع الهزيمة الأخيرة للنظام الصهيوني، فإنها في حالة من الشك.
وترتبط أهمية تطبيع العلاقات بالنسبة للولايات المتحدة أيضًا بالقضايا الأكبر المتعلقة بمنافسة الهيمنة مع الصين، وفي الواقع فإن التطبيع شرط لتنفيذ مشروع كبير لبناء ممر مواصلات يربط الهند بأوروبا عبر السعودية و"إسرائيل"، وهو المشروع الذي ينافس مشروع "حزام واحد وطريق واحد" الصيني.
ومع هزيمة النظام الصهيوني في الحرب وظهور المخاطر الأمنية، وضع مشروع الممر الشمالي كما أسمته الولايات المتحدة، في حالة من عدم اليقين، وأصبح الهنود الذين راهنوا على المشروع الأمريكي بالاستثمار بـ 1.3 مليار دولار في ميناء حيفا عام 2022، ينسحبون الآن ويرون المنافسة مع الصين خاسرة.
وعلى الجانب الآخر من الحرب، أعطى طوفان الأقصى لإيران دورًا إقليميًا أكبر من الجهات الفاعلة الإقليمية الأخرى مثل مصر وتركيا والإمارات العربية المتحدة، لقد أصبحت إيران الآن اللاعب الإقليمي الأكثر قدرة على لعب دور في المنافسة بين القوى الآسيوية المتنامية والقوى الغربية المتراجعة، لقد أثبتت إيران أنها أصبحت اللاعب الرئيسي في المنطقة من خلال اصطفافها مع القوى الشرقية ومعارضتها للولايات المتحدة الأمريكية.
إن طبيعة رد فعل الغرب على الحرب الحالية تثبت أن أمريكا تمر بمرحلة صعبة للغاية، وتعتبر في سياساتها الإعلامية والعسكرية والحقوقية والقانونية حرب طوفان الأقصى بمثابة حرب ضد نظام الهيمنة أحادية القطب، ولذلك فإن هزيمة النظام الصهيوني نتيجة قدرة محور المقاومة ستكون عاملاً مسرعاً في تدمير هيمنة الغرب وتسريع عملية نهاية النظام أحادي القطب.
ولإثبات هذا الادعاء، يكفي الانتباه إلى تراجع الاهتمام الأمريكي بالحرب في أوكرانيا وتايوان والصراع مع الصين، والاندفاع المكثف للمسؤولين الأمريكيين لحماية وجود النظام الصهيوني والدفاع الكامل عن جرائمه.