الوقت- بعد مضي عقدين من الزمن منذ الإطاحة بالنظام البعثي في العراق لم تنفع الاستثمارات الكبيرة في البنية التحتية للطاقة في حل مشكلة الكهرباء في هذا البلد. وتواجه حكومة بغداد تحديات جدية في تقديم الخدمات لمواطنيها، وخاصة في قطاع الكهرباء، لذا فإن حكومة بغداد توقع اتفاقيات مع دول الجوار لتنويع وزيادة مصادر الطاقة.
في هذا الصدد، افتتح الأمير سعود بن نايف، أمير المنطقة الشرقية للمملكة العربية السعودية بالاشتراك مع وزير الكهرباء العراقي، الخميس، رسمياً مشروع وصل شبكة كهرباء العراق مع شبكة دول مجلس التعاون الخليجي.
وقال وزير الطاقة السعودي عبد العزيز بن سلمان في هذا الحفل، إن "مشروع الربط الكهربائي المباشر بين السعودية والعراق يجري حالياً تنفيذاً لمبادئ الاتفاقية الموقعة بين الطرفين". ويمتد هذا المشروع من مدينة عرعر شمال الجزيرة العربية إلى اليوسفية غربي بغداد بطاقة أولية تبلغ 1000 ميغاواط، حيث سيدعم هذا المشروع شبكة الكهرباء العراقية. وصرح وزير الطاقة السعودي أن الربط الكهربائي بين دول مجلس التعاون الخليجي والعراق سيجلب منافع اقتصادية ملموسة، قائلا إنه حلم أصبح حقيقة واقعة.
كما أكد وزير الكهرباء العراقي زياد فاضل في هذا الحفل أن مشروع الربط الكهربائي هذا يظهر نهج الحكومة العراقية في تعزيز التآزر مع الدول العربية في قطاعي الطاقة والاقتصاد. يسعى العراق لحل أزمة الكهرباء التي يعاني منها منذ سنوات عبر الربط مع دول مجلس التعاون الخليجي.
وحسب موقع "خليج اونلاين"، من المتوقع أن يتم تشغيل المرحلة الأولى من مشروع توصيل الكهرباء بين العراق ودول مجلس التعاون بتكلفة 228 مليون دولار في نهاية عام 2024، ويتم تمويل هذا المشروع من قبل عدة شركات من الكويت وقطر.
يأتي افتتاح الربط الكهربائي بين المملكة العربية السعودية والعراق بعد أن وقعت وزارة الكهرباء العراقية اتفاقية مع مجلس التعاون الخليجي في سبتمبر 2019 لإنشاء خطين لنقل الكهرباء. وسيمتد هذا الخط البالغ طوله 300 كيلومتر من محطة العوفرة في الكويت إلى ميناء الفاو الجنوبي بالعراق، وسيرسل 500 ميغاواط من الكهرباء إلى العراق في المرحلة الأولى. في مايو الماضي، وافقت الحكومة العراقية على مشروع توصيل الكهرباء مع دول مجلس التعاون الخليجي.
وضع الكهرباء في العراق
تُعد أزمة النقص الحاد وانقطاع التيار الكهربائي لمدة طويلة، والذي يصل أحيانًا إلى 15 ساعة يوميًا، إحدى مشاكل العراق الرئيسية. وهذه الأزمة نفسها كانت أحد العوامل الرئيسية في اندلاع احتجاجات حاشدة في الشوارع في العراق في أكتوبر 2019. وعلى الرغم من وجود أموال كافية لبناء محطات كهرباء، إلا أن حكومات بغداد لم تكن قادرة على حل هذا التحدي بسبب نقص الغاز الطبيعي، واضطرت لتلبية احتياجاتها من جيرانها.
تضاعف استهلاك العراق من الكهرباء ثلاثة أضعاف منذ عام 2010، حيث ارتفع من 11.9 جيجاواط إلى 39.5 جيجاواط في عام 2021. حاليا، إيران هي البلد الوحيد الذي يستورد العراق منه الكهرباء، حيث يوفر هذا الاستيراد ما معدله 1350 ميغاواط من احتياجات الكهرباء في البلاد يوميا، لكن هذا الحجم لا يكفي لاستهلاك العراقيين. وفقًا لوكالة الطاقة الدولية، سيتضاعف الطلب على الكهرباء في العراق بحلول عام 2030، وستتسع الفجوة بين العرض والطلب ما لم تتصرف الحكومة بسرعة وحسم للتعامل مع هذه التغييرات.
وحسب تقرير البنك الدولي، يعد العراق ثاني دولة بعد روسيا من حيث كمية الغاز التي يحرقها في الغلاف الجوي. بالإضافة إلى استيراد الغاز من إيران، يستورد العراق أيضًا 1200 ميغاواط من الكهرباء من إيران عبر أربعة خطوط نقل كهربائي. إلا أن نقص الإنتاج المحلي من الغاز لتشغيل محطات الكهرباء تسبب في إهدار كميات كبيرة منه، كما أدى الاعتماد على الواردات من إيران إلى تقنين الكهرباء على المدى الطويل، ما ترك العراقيين في حالة صعبة جدا.
شكوك حول قدرة مجلس التعاون الخليجي
على الرغم من ادعاء دول مجلس التعاون الخليجي أنها تستطيع تلبية احتياجات العراق من الكهرباء في المستقبل، لا يزال هناك طريق طويل أمام هذا المشروع. سيبلغ إنتاج العراق من الكهرباء 21 ألف ميغاواط، وستكون الكمية المستوردة من دول الخليج الفارسي نحو 500 ميغاواط، بينما سيصل الطلب المحلي اليومي على الكهرباء إلى 35 ألف ميغاواط، وهو ما سيزيد عنه في الصيف. ورغم أنه من المتوقع أن تصل كمية الكهرباء التي يصدرها العرب للعراق في السنوات المقبلة إلى 2000 ميغاواط، إلا أن هذه الكمية لا تستطيع تلبية احتياجات العراق من الكهرباء.
وبهذا، ستزود الدول العربية 5٪ فقط من احتياجات العراق، ويمكن لمدن مثل البصرة وبعض المدن الجنوبية الأخرى الاستفادة من هذه الطاقة المنخفضة الحجم. العراقيون أنفسهم على علم بهذه القضية ولهذا السبب وقعوا عقودًا منفصلة مع تركيا والأردن لاستيراد الكهرباء من هذه الدول.
على الرغم من أن دول الخليج الفارسي لديها قدرة كبيرة على إنتاج الكهرباء بسبب احتياطياتها الضخمة من الطاقة، إلا أن البنية التحتية لتطوير إمدادات الكهرباء غير متوفرة. وفقًا للإحصاءات، فإن دول مجلس التعاون الخليجي، وعلى الرغم من عدم وجود اقتصاد متقدم، لديها أعلى معدل استهلاك للفرد من الكهرباء في العالم، وهو أعلى من المتوسط العالمي البالغ 3.5 ميغاواطات للفرد في الساعة.
ويعود هذا المعدل المرتفع لاستهلاك الكهرباء إلى عدة عوامل منها الحاجة إلى استخدام الكهرباء للتبريد وتحلية مياه البحر، ويشكل الوقود السائل حصة كبيرة من مزيج الطاقة، وهناك أيضًا قطاعات كبيرة الاستهلاك للطاقة مثل مصانع صهر الحديد والبتروكيماويات والأسمنت في هذه المنطقة والتي تستهلك الكثير من الكهرباء. كما أنه من المتوقع أن يزداد استهلاك الكهرباء في العالم، وخاصة بين دول مجلس التعاون في العقد المقبل، وستكون هناك تحديات لتزويد العراق بالكهرباء التي يحتاجها.
قامت الدول العربية المطلة على الخليج الفارسي أيضًا باستثمارات كبيرة في قطاع الطاقة المتجددة، وتخطط المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة لتصدير جزء من الكهرباء المنتجة من هذه المشاريع في العقد المقبل. لكن بما أن استهلاك العراق من الكهرباء يزداد بشكل كبير في أيام الصيف، فسيكون من الصعب على الدول العربية توفير هذه الكمية من الطاقة، والعرب أنفسهم وضعوا سقفاً حده 2000 ميغاوات للتصدير إلى العراق، ولا يبدو أن باستطاعتهم توفير أكثر من هذه القدرة.
التحدي السياسي لتزويد العراق بالكهرباء
بالنسبة لاتفاقيات الطاقة بين العراق ومجلس التعاون الخليجي، فإن قضية الطاقة هي جزء من القضية، أما الجانب الآخر هو المصالح والطموحات السياسية خلف هذا العمل. في السنوات الأخيرة، وبتوجيه من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، حاولت المملكة العربية السعودية استخدام قضية الطاقة لتأمين مصالحها السياسية.
في مقابل الاستثمار في قطاعي الاقتصاد والطاقة في دول أخرى، يحاول السعوديون مواءمة سياسات حكومة البلد المعني مع خطط الرياض، وهذه الخطة مدرجة أيضًا على جدول الأعمال في العراق. لذلك تحاول السعودية والإمارات إلى حد ما التسلل إلى أروقة القرار السياسي لهذا البلد من خلال جعل العراق يعتمد على دول مجلس التعاون في مجال الكهرباء، وعند الضرورة يمكنهم استخدام هذه الأداة للتأثير على سياسات بغداد.
أظهر السعوديون في السنوات الأخيرة أنهم لن يوفوا بالتزاماتهم حتى تجاه حلفائهم، وقد رأينا مثالاً على ذلك في حالة الأزمة الأوكرانية حيث وقفت مقابل أمريكا، بالإضافة إلى انتهاك الاتفاقيات مع باكستان في أوقات أزمة، وليس من المستبعد أن يستخدم هذا التكتيك في المستقبل ضد العراق.
من ناحية أخرى، إذا تحقق مشروع بناء مدينة بن سلمان الضخمة "نيوم"، سيزداد استهلاك الكهرباء في السعودية أكثر، وقد لا تتمكن من الوفاء بالتزاماتها تجاه بغداد على الإطلاق. لذلك، لا يوجد ضمان لتنفيذ مشروع الكهربة من قبل مجلس التعاون للعراق، ويجب على سلطات بغداد التفكير في حل الآن لتحرير العراق من الاعتماد على جهة معينة في مجال الطاقة في المستقبل.
من ناحية أخرى، فإن الخط الرئيسي لنقل الكهرباء العربية إلى العراق يمر عبر أراضي الكويت التي كانت في خلاف مع الحكومة العراقية منذ أكثر من ثلاثة عقود. حيث لا يزال التوتر بين الكويت والعراق بشأن آبار النفط في الخليج الفارسي ودفع ديون النظام البعثي للكويت خلال الحرب المفروضة مع إيران يلقي بظلاله على العلاقات بين البلدين، وإذا اشتدت هذه الخلافات في المستقبل، يمكن أن يؤثر على عملية نقل الكهرباء إلى العراق.
يزعم بعض الخبراء العرب أن عقد استيراد الكهرباء من إيران سينتهي في عام 2024 وتحاول بغداد عدم تجديد هذا العقد والاستفادة من قدرات مجلس التعاون بدلاً من ذلك. إذا ثبت صحة هذا الافتراض المستحيل، فإن اعتماد العراق على الطاقة العربية سيزداد وسيوفر هذا فرصة جيدة للشيوخ لمواءمة بغداد مع سياساتهم الطموحة.
وتجدر الإشارة إلى أن استبدال الكهرباء المستوردة من إيران بالكهرباء القادم من الدول العربية ليس فقط غير ممكن على المدى القصير، ولكن قدرة هذه الدول أيضاً ليست كافية لتلبية جميع احتياجات العراق. لذلك، فإن الخيار الأفضل للعراق هو استخدام البنية التحتية الداخلية لتزويده بموارد الطاقة، ويمكنه أيضًا الاعتماد في هذا المجال على مساعدة إيران.
وفقًا لمعهد الطاقة العراقي، يتم فقدان حوالي 30 إلى 50 بالمائة من الكهرباء بسبب ضعف أنظمة النقل والتوزيع. حيث إن شبكة توزيع ونقل الكهرباء في العراق متهالكة وتحتاج إلى تحديث وتوسيع بشكل عاجل، وخُمس هذه الشبكة تعطلت بسبب الحرب ضد داعش، وهي بحاجة إلى عملية إعمار كبيرة، الأمر الذي يتطلب تكاليف باهظة تفوق قدرة الحكومة في العراق في وضعها الحالي.
إيران لا تزال الخيار الأفضل لإمداد الكهرباء
يوجد في العراق محطات لتوليد الطاقة، ولكن بسبب نقص الوقود المطلوب، فإنها متوقفة تقريبًا أو أنها تعمل خلال ساعات معينة، وكانت إيران الدولة الوحيدة التي ساعدت العراقيين في هذا المجال، وحتى الشركات الهندسية الإيرانية تنشط في بناء محطات الطاقة في العراق.
على الرغم من الجهود التي تبذلها الولايات المتحدة وبعض دول المنطقة لقطع يد إيران عن سوق الطاقة العراقي، صرح مسؤولون في بغداد مرارًا وتكرارًا إن كمية الغاز المنتج من إيران أكثر اقتصادا بالنسبة لهم وذات تكلفة معقولة مقارنة بالآخرين في الدول المجاورة، والعديد من محطات الطاقة العراقية تعتمد على الغاز الإيراني في تشغيلها.
على مدى السنوات الماضية، أظهرت إيران، على عكس العرب، أنه ليس لديها مصلحة سياسية أو اقتصادية في مساعدة حليفها، وأنها تحاول فقط رفع العبء عن كاهل الشعب والحكومة العراقية، لأن أزمة الطاقة يمكن أن تخلق حالة من انعدام الأمن في هذا البلد الصديق، الأمر الذي سيكون تحديًا للمنطقة.
يحرق العراق حوالي 16 مليار متر مكعب من الغاز سنويًا، وإذا تمت تنقية هذا الغاز لاستخدامه في محطات الطاقة، فستتحسن قدرة العراق على توليد الكهرباء بشكل كبير. من ناحية أخرى، بالنظر إلى أن حوالي 63٪ من سعة محطة توليد الكهرباء في العراق تستخدم الغاز لتوفير الكهرباء، فإن إيران، باعتبارها واحدة من أكبر احتياطيات الطاقة المستقرة المجاورة للعراق، يمكن أن تكون خيارًا مناسبًا لإمدادات الكهرباء في المستقبل. ومع ذلك، تحاول الولايات المتحدة تضييق العلاقات بين الجمهورية الإسلامية والعراق، ودفع بغداد نحو توفير الكهرباء من دول مجلس التعاون الخليجي لقطع 3 مليارات دولار من دخل إيران من بيع الكهرباء إلى العراق، لكنها فشلت في القيام بذلك حتى الآن.