الوقت - تواجه فرنسا، التي شهدت احتجاجات مناهضة للحكومة أكثر من أي دولة أخرى في السنوات الأخيرة، موجةً جديدةً من الاحتجاجات المدنية في الأسابيع الأخيرة.
إيمانويل ماكرون، الذي تولى رئاسة قصر الإليزيه للجولة الثانية على التوالي في الانتخابات الرئاسية الباهتة العام الماضي بهامش ملليمتر، خلق في أقل من عام العديد من الأحداث السياسية والاجتماعية في فرنسا، ما أوجد أفقاً قاتماً في المجال السياسي لهذا البلد.
في السنوات الست الماضية، لم يعمل ماكرون على تحسين الرفاهية الاقتصادية للشعب الفرنسي فحسب، بل وافق أيضًا على خطط معارضة لشرائح مختلفة من الشعب، وقد تسبب هذا في أن تكون شوارع فرنسا مليئةً دائمًا بالمحتجين المناهضين للحكومة.
في الأسابيع الأخيرة، جعلت الخطة المثيرة للجدل لتعديل قانون التقاعد الحكومة والشعب ضد بعضهما البعض، وأدخلت فرنسا في مرحلة جديدة من الأزمة السياسية. وبينما توقع المحتجون تراجع الحكومة عن خطتها، أدى إصرار ماكرون على تنفيذ هذه الخطة إلى خروج ملايين الأشخاص إلى الشوارع.
وذكرت بعض وسائل الإعلام أن أكثر من 3.5 ملايين شخص نزلوا في مدن مختلفة يوم الخميس الماضي إلی الشوارع، للتعبير عن معارضتهم للخطة الجديدة لحكومة ماكرون.
لم يتم تسجيل هذا العدد من المتظاهرين في شوارع فرنسا في العقدين الماضيين، ما زاد من المخاوف بشأن خروج الاحتجاجات عن السيطرة. في باريس نفسها، شارك أكثر من مليون شخص في احتجاجات يوم الخميس، وقال المعارضون إنهم سيستمرون في الاحتجاج حتى تتراجع الحكومة عن خطتها الجديدة.
قام المتظاهرون، الذين كانوا من بين المتقاعدين والعاملين ومجموعات طلابية احتجاجية، بإضرام النار بالكامل في مبنى بلدية نانت ردًا على عنف الشرطة. كما هاجمت بعض الجماعات المتظاهرة المباني الحكومية، بما في ذلك مكتب وزارة الداخلية في باريس، ودمرت بعض الممتلكات الحكومية. ودعا المتظاهرون، بما في ذلك في باريس، إلى تنحية ماكرون ووصفوه بالرئيس الفاشل.
في الاحتجاجات التي عمت أرجاء البلاد يوم الخميس، أغلق المتظاهرون لفترة وجيزة محطات القطارات ومحطات الحافلات والطرق السريعة، بما في ذلك الطريق الرئيسي المؤدي إلى مطار شارل ديغول بالقرب من باريس، أكبر مركز في فرنسا؛ وكانت احتياطيات الوقود منخفضةً للغاية بسبب الإضرابات المستمرة في مصافي النفط في جميع أنحاء البلاد.
وأظهر استطلاع للرأي في فرنسا، أن ثلث الفرنسيين يريدون إقالة الحكومة. كما أكدت النقابات العمالية على توسيع نطاق اعتصاماتها. لذلك، يواجه ماكرون الآن أخطر تحدٍّ لسلطته منذ احتجاجات "السترات الصفراء" قبل أكثر من خمس سنوات.
واصلت حركة السترات الصفراء، التي بدأت في نوفمبر 2018 رداً علی ارتفاع أسعار الوقود في فرنسا، احتجاجاتها الأسبوعية ضد حكومة ماكرون يوم السبت، وقد أثارت تحدياً کبيراً للحكومة. لكن مع انتشار فيروس كورونا في جميع أنحاء العالم، هدأت موجة الاحتجاجات بسبب منع زيادة عدد المصابين، حتى يتمكن ماكرون من تنفس الصعداء لفترة وجيزة. ورغم عدم ورود أنباء عن احتجاجات السترات الصفراء، ولکن يواصل المحتجون على قانون التقاعد المسار الماضي ولكن بطريقة مختلفة.
وعلی الرغم من أن حكومة ماكرون نجت من تصويت بحجب الثقة عن البرلمان بشأن إصلاحات المعاشات التقاعدية يوم الاثنين الماضي، فإن الإضرابات والاحتجاجات ستستمر، ما يشكل تحدياً كبيراً لسلطة ماکرون.
ويأتي توسيع نطاق الاحتجاجات فيما قال ماكرون في خطابه إن إصلاح قانون التقاعد لا عودة له ويجب تنفيذه بنهاية عام 2023، وأكد أنه لن يسمح بأي تجاوز خلال الاحتجاجات المستمرة ضد تعديل قانون التقاعد.
يدعي ماكرون أن التعديلات على هذا القانون تفيد الجميع، لكن المعارضين لهم رأي مختلف، وفي الأيام الأخيرة أظهروا عدم وجود نية لديهم للاستسلام، وأن عدد المحتجين يتزايد يومًا بعد يوم.
يقول المتظاهرون إنهم سيعقدون قريبًا تجمعًا كبيرًا حول قصر الإليزيه في باريس، باعتباره المقر الرئيسي للحكومة في البلاد. هذه المظاهرات، التي بدأت يوم الخميس الماضي، هي الجولة التاسعة من الاحتجاجات التي خططت لها نقابات فرنسية كبرى منذ يناير كانون الثاني.
ولهذا الغرض، طلبت إليزابيث بورن، رئيسة الوزراء الفرنسية، إعلان حالة الطوارئ في اجتماع مع ماكرون. وقد اتسع نطاق الاحتجاجات في فرنسا لدرجة أن تشارلز الثالث، ملك إنجلترا، الذي كان من المفترض أن يجتمع مع ماكرون في باريس، أرجأ زيارته إلى هذا البلد حتى يهدأ الوضع الأمني في فرنسا.
الإضرابات تشل فرنسا
إضافة إلى الاحتجاجات الشوارعية، تتزايد الإضرابات المناهضة للحكومة. وفي هذا الصدد، قال متحدث باسم شركة توتال إن 31 بالمئة من العاملين في مصافي النفط والمخازن الفرنسية أضربوا عن العمل يوم الجمعة، ما أدى إلى نقص الوقود في بعض المناطق.
من ناحية أخرى، احتجاجًا على هذا الوضع، منعت القوات التعاقدية للبلديات الفرنسية تفريغ القمامة وجمعها من على سطح المدينة، ما تسبب في تدهور الوضع في المشهد الحضري لباريس.
وأعلنت بلدية باريس عن إغلاق محطتين كبيرتين لحرق النفايات، وجمع 10 آلاف طن من القمامة في شوارع باريس، بسبب إضراب عمال النظافة الفرنسيين. كما انضم رجال الإطفاء إلى المتظاهرين الفرنسيين، وقد أثارت هذه القضية قلق الحكومة.
وأدت الإضرابات واسعة النطاق والإضرابات الصناعية، إلى اضطرابات كبيرة في النقل البري وإلغاء الرحلات الجوية. وقال مسؤولو المطار إن الاحتجاجات ستؤثر سلباً على رحلات نهاية الأسبوع، حيث تم إلغاء ما يصل إلى 30٪ من الرحلات التي كان من المفترض أن تتجه جنوب باريس يومي الجمعة والسبت، وإلغاء 20٪ من الرحلات الجوية من مرسيليا وبوردو وليون.
وأعلنت النقابات الثمانية المنظمة للاحتجاجات في بيان: "فيما يحاول ماكرون قلب الصفحة، تؤكد هذه الحركة الاجتماعية والنقابية على عزم العمال والشباب على رفض الإصلاحات. ودعت المنظمة إلى تحرك محلي خلال عطلة نهاية الأسبوع، وإضرابات واحتجاجات جديدة على مستوى البلاد يوم الثلاثاء.
وتخشى النقابات العمالية في فرنسا من أن الاحتجاجات الجماهيرية قد تتحول إلى أعمال عنف، إذا لم تهدئ الحكومة الغضب العام بشأن خطة التقاعد.
في السنوات الأخيرة، أظهر الشعب الفرنسي استعداده لمواصلة الاحتجاج لفترة طويلة من أجل تحقيق مطالبه المشروعة. ولم يكن ماكرون، أصغر رئيس في تاريخ فرنسا، قادرًا على إرضاء الشعب خلال السنوات الست التي قضاها في منصبه، وكان دائمًا يثير احتجاجات عامة ضد حكومته من خلال الموافقة على بعض الخطط المثيرة للتحدي.
تمت الموافقة على خطة حكومة ماكرون من خلال تهديد الرئيس ورئيس الوزراء في البرلمان بحل البرلمان الفرنسي، وستبدأ المراحل النهائية من تنفيذها العام المقبل.
وحسب هذه الخطة، سيرتفع سن التقاعد من 62 سنة إلى 64 سنة، وسترتفع الخبرة المطلوبة للتقاعد من 40 سنة إلى 43 سنة. وبالنسبة لبعض الوظائف الأكثر صعوبةً، مثل العمل البلدي وجمع القمامة، تم رفع سن التقاعد من 58 إلى 60 عامًا.
إذا تبين أن مشروع القانون غير دستوري، يمكن لأحزاب المعارضة الطعن فيه في المجلس الدستوري، الذي يمكنه أن يقرر إلغاء جزء منه أو كله. كما أظهرت استطلاعات الرأي في الأيام الأخيرة، أن شعبية ماكرون قد تراجعت إلى 28 بالمئة، وهو أدنى مستوى منذ احتجاجات السترات الصفراء. وشجب المنتقدون إصلاح نظام التقاعد باعتباره عبئاً متزايداً على العمال.
قمع هائل للمتظاهرين في بلد يدعي الديمقراطية
بينما كانت الاحتجاجات التي استمرت شهرين في فرنسا سلميةً، تحاول الحكومة قمع موجة الاحتجاجات بعنف واسع النطاق.
وحسب تقارير معظم وسائل الإعلام الأوروبية، تحولت التجمعات الفرنسية إلى أعمال عنف يوم الخميس بتدخل شرطة مكافحة الشغب، وخاصةً في مدن باريس ونانت وليون وتولوز.
وفي الأيام الماضية، تم نشر مقاطع فيديو سرًا تظهر مشاهد ضرب الشرطة للمعتقلين أثناء الاحتجاجات في الشوارع. ويقال إن عرض مقاطع الفيديو هذه لعب دورًا خاصًا في إثارة مشاعر المحتجين.
وبعد إغلاق الطرق في بعض الشوارع والمدن، تدخلت قوات مكافحة الشغب لفتحها وأطلقت الغاز المسيل للدموع على المتظاهرين. ولجأت قوات الشرطة الفرنسية إلى الأساليب العنيفة لتفريق المتظاهرين، وتشير الصور ومقاطع الفيديو المنشورة، إلى أن باريس أصبحت ساحة معركة في الأيام الأخيرة.
وأثناء تقديم تقرير عن المظاهرات الحاشدة في العاصمة وأجزاء أخرى من البلاد، وصفها وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان بـ "الخميس الأسود".
وقال دارمانان إنه تم اعتقال 457 شخصًا وإصابة 441 من قوات الأمن، كما أُضرمت النيران في 903 من الأماكن العامة؛ رغم أن بعض وسائل الإعلام أعلنت أن عدد الموقوفين والمصابين أكثر من الإحصاءات الرسمية. ومع تدهور الوضع الأمني في باريس، تم نشر المزيد من قوات الأمن حول الإليزيه.
تعتقد الحكومة والحزب الحاكم أن الاحتجاجات العنيفة قادتها مجموعات يمينية متطرفة وفوضويون يساريون، وأعلنوا أن الشرطة نفذت واجباتها المحددة فقط، لكن هذه المزاعم هي مبرر فقط لقمع ملايين المتظاهرين الذين لا يسمحون للحكومة بمواصلة قوانينها الصارمة ضد الطبقات الضعيفة.
اللامساواة الاجتماعية في قانون إصلاح المعاشات التقاعدية لماكرون أثرت على أعصاب الناس، في بلد يدرج كلمة "المساواة" في شعاراته ودستوره. وكان الحديث عن عدم کون القانون الجديد عادلاً، دافعًا رئيسيًا للاحتجاجات الجماهيرية التي جلبت الملايين إلى الشوارع في المدن والبلدات والقرى في جميع أنحاء فرنسا.
ويأتي عنف الشرطة ضد المعارضين للحكومة، في حين يعتبر القادة الفرنسيون دائمًا بلادهم مهد الديمقراطية، لكن في احتجاجات السنوات الأخيرة، كان الشيء الوحيد الذي تمت التضحية به هو الديمقراطية المزعومة لقادة باريس، الذين أظهروا أن للديمقراطية معنى فقط عندما لا يكون هناك عمل ضد الحكام، وأي احتجاج سلمي يستهدف الحكومة محكوم عليه بالفشل، وسيتم قمعه بعنف.
إن القمع واسع النطاق للمتظاهرين الفرنسيين يأتي في وضع يتهم فيه ماكرون ومسؤولون آخرون في باريس السلطات الإيرانية بانتهاك حقوق الإنسان للإيرانيين، من خلال دعم أعمال الشغب الإيرانية على مدار الأشهر الستة الماضية، ولكن هم أنفسهم أثبتوا أن حقوق الإنسان تهدف فقط إلى الضغط على الحكومات المعادية.
وبينما صورت سلطات باريس مثيري الشغب الإيرانيين على أنهم متظاهرون سلميون، كان من الواضح أنهم كانوا يسعون إلى قلب النظام الإيراني وليس لديهم مطالب سلمية، لكن المحتجين الفرنسيين يريدون تحسين معيشتهم وليس لديهم نية للتخريب، لكنهم ما زالوا يتعرضون للقمع بأسوأ طريقة ممكنة.